أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ... إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي ! أهي كريات الدم في عروقي ؟؟ أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟ أم تيارات الهواء في صدري ؟؟ بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره متى سيصل ؟؟ سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ... استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي ! رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ اضطربت قليلا ، ثم قلت : لا شيء ... والدتي ابتسمت ، و قالت : لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق ! إنني لم أر سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكنني ... لكنني كنت أرتقب وليد ! كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ... إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ... تعالي و ساعدينا ! ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي ! كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت : فيم أساعدك ؟؟ و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال : دانة فيم أساعدك ؟؟ انتبهت لي أخيرا ، و قالت : تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على الع** من شعري القصير الأملس الناعم ! تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل ! صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب ! مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء ! رغد ! جففي بأمانة ! قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت ! فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل ! لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلتي ! إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات ! أو على الأقل ، معظمنا ! قلت بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! و ضحكنا ! لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة : هل حضر ؟ ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة : أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! قالت والدتي ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت : أليس لديك ما يناسب ؟ سأ***ك مما عندي إن شئت عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد . أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ... بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ... و أنا أمر من والدتي قالت : رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل ... بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب : إلى أين رغد ؟؟ سأذهب للاستحمام ! انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي ! أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي ربما يكون وليد ! أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة ! أوه رغد ! ماذا فعلت ! والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي .. انزلقت من يدي ! و تركت كل شيء و هممت بالانصراف إلى أين ؟؟ سأرى من عند الباب أمي ! و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين ! حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة : أبي ... هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود أمي نظرت إلي و قالت مباشرة : عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! قلت : و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! قالت : هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت : أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة : فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر ... كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ... لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟ لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟ هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ... لابد أنه وليد !
توقيع yuri19_86
عدل سابقا من قبل yuri19_86 في السبت يناير 02, 2010 1:07 am عدل 1 مرات
كاتب الموضوع
رسالة
yuri19_86
مؤسس المنتدى
المشاركات : 13773تاريخ التسجيل : 10/11/2009
موضوع: رد: رغــــــد ,,,أنتي لــــي 3 السبت يناير 02, 2010 12:54 am
هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت :
" يجب أن أذهب الآن ... "
و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ...
قلت :
" نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! "
قالت :
" لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... "
قالت أمي :
" لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا "
ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :
" ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! "
رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :
" نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك "
نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ...
عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !
ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :
" بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! "
لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:
" أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي "
دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :
" لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! "
ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :
" قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ "
و صفعتُ الباب خلفها ...
اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ...
و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ...
لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ...
لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ...
أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ...
كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟
كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ...
و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟
أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟
عدا عن ذلك ...
فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟
حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟
أم ... وليد ...الذي ...
الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟
وليد ... الكذاب !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
كذاب !
كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ... لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟ لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟ ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟ أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !
الخائنان !
كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .
بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ...
كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، إلا أنني شعرت بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !
إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ...
لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي .
عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ...
الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبير **ورها بالمطرقة و المسامير !
ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ...
رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :
" مرحبا بك أيها السيد النبيل ... "
هبطت ببصري أرضا و قلت :
" كيف أحوالكم ؟ "
" الحمد لله . ماذا عنك ؟ "
" بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ "
" خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل "
و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :
" سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكما ؟ "
قالت :
" لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك "
و ذهبت مسرعة إلى المنزل ...
أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق الم**ورة التي تنتظر دورها في التجبير !
إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة !
أليس كذلك ؟؟
بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !
شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !
قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :
" دعاني أتولى ذلك "
طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :
" ريثما يعود العم إلياس "
و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !
في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح **ور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ...
أمر مخز بالفعل !
بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي ...
قلت :
" مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! "
اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !
أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ...
قال العجوز :
" أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ "
قلت :
" ليس بعد ! "
قال :
" إذن ؟؟ "
قلت :
" هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ "
ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !
شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ...
في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل م**ور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان ! و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ...
وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ...
رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ...
أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و **بت عدة أرطال من الوزن !
و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !
اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ... أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !
هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :
" و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! "
قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :
" لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... "
قال :
" و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ "
أنا ؟؟
أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟ لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع الع***ية !
" لا يمكنني ... يا أبي ... "
" في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! "
" أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! "
" و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا "
أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !
خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم ...
كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ...
قال العم :
" نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير "
ابتسمت له بفرح ، و قلت :
" بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا "
و هي حقيقة أدركها ... تماما
قالت أروى :
" نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ "
قلت :
" سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... "
قالت :
" أ لديك شقيقات ؟؟ "
قلت :
" نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا "
قالت :
" أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا "
و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :
" نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود "
و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... !
أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... !
~ ~ ~ ~ ~ ~
أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ...
تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد .
في أي لحظة قد يصل ...
لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على الع** ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ...
أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !
" عروسي ... تفضلي هذا "
أخذت العصير و شكرته و قلت :
" لم تحضره بنفسك ! ؟ "
ابتسم و قال :
" عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! "
ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ...
سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !
قال :
" لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... "
قلت في نفسي :
ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟
الآن أمسك بيدي و قال :
" ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! "
سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !
قال :
" فيم تفكرين ؟؟ "
التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :
" مندمجة مع التلفاز ! "
سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :
" بل أنت في مكان آخر ! "
لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ...
قال سامر :
" تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ "
التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟
نعم هناك ما يكاد يخنقني !
أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟
سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :
" لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! "
في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... !
بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :
" سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! "
سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :
" إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! "
قالت دانة :
" آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! "
جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... قال سأل سامر منفعلا :
" هل وصل وليد حقا ؟؟ "
قالت :
" نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! "
عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، إلا أنني الآن شعرت بالبرودة !
البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !
دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :
" ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! "
وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي ! أهذا وقته ؟؟
سامر قال :
" فداك ! "
ثم التفت إلى دانة و قال ...
" إلى وليد ! "
و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ...
دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :
" ألن تأتي لتحيته ؟؟ "
قلت :
" سأبدل ملابسي ... "
و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :
" أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي "
دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !
شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ...
من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟
أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا !
مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !
ألست ُ عروسا على وشك الزواج ؟؟
لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !
و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !
أليس هذا من حقي ؟؟؟
طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ...
دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت :
" بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ "
قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :
" أتزين ! ما ترين !؟ "
قالت :
" تتزينين ! الآن ؟؟ "
قلت :
" ماذا في ذلك ؟؟
قالت :
" ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! "
قلت :
" و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... "
ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ...
دانة كانت تحدثني باستنكار ، إلا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ....
لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟
لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟
ماذا جرى لي الآن ؟؟
جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ...
لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟
لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟
كم كان شعورا جميلا ... رائعا ...
و انتهى ...
و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ...
أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !
" رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ "
" أنا ؟؟ لا أبدا "
" إذن ... لم هذه الزينة ! "
حتى أنتِ يا أمي ؟؟
هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !
أهي أفضل مني ؟؟
قلت :
" هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ "
قالت :
" لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! "
سأتزوج بعد ثلاثة أسابيع من سامر ، فيما يقف وليد إلى جانبي ليعتني بي أثناء ابتعاد أمي عني ...
ثلاثة أمور جعلتني في غاية التوتر خصوصا هذا اليوم ، و آخر شيء كنت لأتقبله هو كلمات السخرية من دانة التي ترددها منتقدة إياي ...
لم أحتمل كل ذلك و بدأت بالبكاء بشكل غريب !
هم يجلسون الآن معا يودعون بعضهم البعض و أنا قابعة هنا أبلل المناديل بالدموع المالحة المتدفقة بغزارة ...
أريد أن أبقى مع والديّ قبل رحيلهما !
ليت وليد يختفي !
ليتني أنا من يختفي !
ليتكم أنتم أيضا تختفون !
سمعت صوت والدتي تناديني ، من خلف الباب المغلق ...
" نعم أمي "
والدتي فتحت الباب و دخلت قبل أن تدع لي الفرصة لمسح دموعي ، و التي و إن مسحتها لا أسهل عليها من أن ترى آثارها مطبوعة على وجهي ...
أمي نظرت إلى بقلق و حيرة و قالت :
" و بعد ؟؟ ما نهاية حكايتك هذه ؟؟ ما بك يا رغد أخبريني ؟؟ "
" لا شيء أمي "
" إذن ... لم تحبسين نفسك في غرفتك و تسبحين في بركة الدموع هذه ؟؟ "
قلت بانفعال :
" لا شيء أمي لا شيء ... لا شيء ... لا شيء ... "
و انخرطت في البكاء باستسلام ...
لم أقاوم أو أواري أي دمعة تحدتني بالظهور ... بكيت بحرقة ... لم أعهدها من قبل ... لم أكن أشعر بمثل هذه الأشياء تتحرك في صدري قبل الآن ... لكنني أشعر الآن بصرخة كبيرة تود الانطلاق رغما عني ... إنني منهارة و أريد من يواسيني ... من يسندني ... من يساعدني ... من ينقذني مما أنا مقبلة عليه ...
من ؟ من ؟؟
أمي أقبلت نحوي ، و مسحت بيدها الحنونة على رأسي و ربتت على كتفي بلطف
قالت :
" بنيتي ... أخبريني ما بك ... إنني قلقة عليك و لا أريد السفر قبل أن أطمئن ... ما بك ؟؟ مم أنت مستاءة ؟ "
أنظر إلى أمي ، فأرى في عينيها عالما كبيرا محيرا ... أرى فيها أكواما من القلق و الخوف ... و الخشية و الاضطراب ...
ليتك يا أمي تدخلين إلى أعماقي و ترين بنفسك ...
أترين يا أمي ؟؟
إنني لا أريد أن تسافري و تتركيني ...
أيقلقك ذلك ؟؟
إنني لا أريد الزواج من سامر ...
أيفجعك ذلك ؟؟
إنني أريد أن استعيد وليد ...
أيذهلك ذلك ؟؟
إنني أريد أن تعود أمي للحياة ...
أيقتلك ذلك ؟؟
إنني أموت ببطء يا والدتي ...
أيرضيك ذلك ؟؟
أموت و أنا لم أحي َ بعد ...
لم أولد بعد !
أترين كل ذلك يا أمي ؟؟
" لا شيء أمي ... لا شيء ... "
برقت دموع في عيني والدتي لتأثرها بحالتي هذه ، و الدموع في عين أمي هي شيء لا أحتمله مطلقا... مطلقا
مسحت دموعي بسرعة و قلت :
" أمي ... لا شيء صدقيني ، أنا فقط متأثرة لسفركما ، فهي أول مرة في حياتي تبتعدان فيها عني ... لا أتصور حياتي بدونكما "
والدتي ضمتني إلى صدرها و قالت :
" ستعيشين حياتك بسعادة و راحة مرضية ... لا تقلقي ... فابني سيعتني بك جيدا كما نفعل نحن ... الله قسم هكذا "
رفعت رأسي و نظرت إليها بشيء من الحيرة ... فكلماتها بدت غامضة ، فقالت هي:
" و الآن عزيزتي ... ألن تأتي لمجالسة والدك ؟ إن هي إلا فترة قصيرة ثم نسافر ! "
أجبت بإذعان :
" بلى "
و استدركت :
" وليد معكم ؟؟ "
قالت :
" بالتأكيد ... "
طبعا هو معهم ! أين يمكن أن يكون ؟؟
أخذت حجابي و سرت نحو المرآة لارتدائه ، و هالني منظر عيني الحمراوين و جفوني المتورمة !
تركت الحجاب جانبا و مضيت لأغسل وجهي ...
عندما خرجت من دورة المياه وجدت أمي تنتظرني ...
قالت :
" هيا عزيزتي ... "
ارتديت حجابي على عجل و أقبلت نحوها ...
قالت :
" سيسير كل شيء على ما يرام ، و إن احتجت شيئا لا تترددي في طلبه من دانة أو وليد أو سامر ... سنبقى على اتصال دائم "
بعدها ذهبنا إلى غرفة المعيشة ...
كانوا جميعهم مندمجين في الأحاديث المختلفة ، و ما أن رأونا حتى قال سامر :
" تعالي رغد ! كنا نوصي الكبير و العروس بك خيرا ! "
والدي قال موجها حديثه إلي و هو يبتسم بابتهاج :
" أهلا بالعزيزة المدللة ! تعالي و اجلسي قرب أبيك ليرتوي منك قبل السفر "
سرت ُ كالآلة نحو المقعد الذي يجلس عليه أبي و جلست إلى جواره ، ففتح ذراعه و أحاطني بها ... قال :
" ما بك صغيرتي ؟ على الوجبات لست معنا ، و في الجلسات لا تشركينا ! ألن تشتاقي لشيبتي هذه ؟؟ "
سامر ضحك ، و دانة نظرت إلى السقف باستنكار ... و أمي ابتسمت ، أما الكائن الأخير فلم ألتفت نحوه لأعرف ما فعل !
قلت :
" بلى ... كثيرا جدا ! خذاني معكما ! "
قال سامر مداعبا :
" و أنا أيضا ! "
قالت دانة :
" ماذا عنّي ؟؟ "
قلت :
" نتركك مع المغرور ! "
ضحك من ضحك ، أما صوت وليد ـ و الذي كان خفيفا و مع هذا تمكنت مجسات أذني من التقاطه ـ فجاء في الكلمتين التاليتين :
" تقصدينني أنا ؟؟ "
و أجبرني سؤاله على الالتفات إليه ...
لقد كان ينظر إلي بغرابة ...
لم أرد عليه ، بل التفت إلى أبي
و دانة تولت الإيضاح بنفسها إذ قالت :
" بل تقصد خطيبي ... فهي لا تطيقه و تنعته بالمغرور دوما "
" المغرورون ، و الكذابون ، و الخونة كذلك ... كلهم لا يطاقون ! "
التفت إلى وليد و قلت :
" من تقصد ؟؟ "
قال :
" بعض معارفي يا ابنة عمي ... لا يطاقون ! "
بدا كل هذا سخف ! أليس كذلك ؟؟
قال سامر :
" دعونا من هذا ... و لنعد إلى موضوعنا .. لدينا عروسان ، بالتالي موكبا زفاف ... أبي و وليد ، من سيقود موكب من ؟؟ دعونا نحدد الآن "
قلت أنا بسرعة :
" أنا أريد أبي "
التفت سامر نحو دانة و قال :
" إذن أنت مع وليد "
دانة نظرت إلى وليد و قالت :
" إذن يجب أن تستأجر سيارة فخمة من أجلي ! أفخم من سيارة سامر ! "
والدتي ضحكت و قالت :
" يا لتفكيركن العجيب يا فتيات هذا الزمن ! "
قالت دانة :
" لن أقبل بسيارة قديمة كهذه ! "
و وجهت كلامها إلى وليد قائلة :
" لم لا تستبدل سيارتك يا وليد ؟؟ لقد عثى عليها الدهر ! "
قال وليد :
" سأفعل ... عندما تتحسن الأحوال ! "
الأحوال بالتأكيد يقصد بها الأحوال المادية !
و لكن هل ابن عمي هذا ضئيل المال ؟؟ ألم يذهب للدراسة في الخارج ؟ لا بد أن لديه شهادة عظيمة تمكنه من احتلال وظيفة مرموقة ... ذات دخل محترم ! مثل سامر !
لا أدري ما كان يقصد بتحسن الأحوال هذه !
وليد قال :
" أ لديك دراسة هذه الفترة ؟ "
طبعا كان يقصدني ! لكنني تظاهرت بأنني لم أنتبه !
لذا قال والدي :
" نعم لمدة خمسة أيام قبل إجازة العيد ... ، ستأخذها للجامعة خلال هذه الأيام "
قال وليد :
" حسنا ، أهناك أي تغيير في مواعيدك ؟؟ "
الكل ينظر إلي بانتظار جوابي !
قلت بنفور :
" لا ، و لكنني أفكر في عدم الذهاب هذه الأيام "
قال وليد :
" لم ؟؟ "
قلت باستياء :
" ليس من شأنك "
بعض الصمت سكن الغرفة تلاه صوت أبي :
" لم لا تودين الذهاب رغد ؟؟ "
قلت :
" لا أريد ترك دانة وحيدة معظم النهار "
دانة نظرت إلي بتشكك و قالت :
" لا تكترثي بشأني ! سأقضي الوقت في إعداد الطعام و العناية بالمنزل ! "
ثم أضافت بجرأة :
" و التنزه مع نوّار ! "
قالت أمي :
" على ذكر الطعام ... ماذا عن كعكتك يا دانة ؟؟ "
قامت دانة و قالت :
" آه نعم ... سأحضرها لكم الآن ... "
و ذهبت إلى المطبخ ، فقمت أنا و لحقت بها ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
عادت دانة و رغد بعد قليل تحملان الكعكة و كؤوس العصير ... و قامتا بتوزيعها علينا جميعا ...
الذي آلمني هو أنها ـ أي صغيرتي رغد ـ كانت تعاملني بنفور شديد ... حتى أنها حين جاء دوري لأخذ كأس عصيري لم تدع لي المجال لأخذه ، بل أمسكت هي به و وضعته على المنضدة الماثلة أمامي بسرعة كادت تدلق محتوياته فوقها !
كانت الكعكة لذيذة جدا ... قلت :
" ما ألذها ! سلمت يداك يا دانة ! أنت ماهرة "
قالت دانة بزهو :
" شكرا يا أخي ، سترى ! سأذيقك أصنافا لذيذة من الحلويات فأنا ماهرة في إعدادها ! "
قلت :
" عظيم ! فأنا أحب الحلويات ! "
و التفت نحو رغد و قلت :
" و أنت ؟؟ "
رغد رفعت بصرها عن قطعة الكعك التي بين يديها ببطء ، و نظرت إلي بنفاذ صبر و قالت :
" أنا لا أحب الحلويات "
قلت :
" أقصد ماذا ستذيقيننا من صنع يدك ؟؟"
لم يبد على رغد أنها تريد تباديل الأحاديث معي ... قالت بضجر :
" لا شيء ... "
قالت دانة :
" إنها **ولة ! لا تحب الطهو و لا تجيده ! لا أعرف كيف ستتولى مسؤولية بيتها المستقبلي ! مسكين سامر ! "
ضحك سامر و قال :
" سأعود لأمي كلما قرصني الجوع ! "
و أخذ الجميع يضحكون عدانا أنا و هي ...
قالت دانة و هي تضحك :
" أو صبّر معدتك بالبطاطا المقلية المقرمشة ! "
و استمروا في الضحك بمرح ...
رغد وقفت الآن بغضب و قالت :
" أنتم تسخرون مني "
الجميع توقف عن الضحك ، و نظروا إليها باهتمام ... كانت منفعلة ...
قال سامر :
" لا عزيزتي نحن نمزح فقط ! "
قالت :
" بل تسخرون مني "
و توجم وجهها بما يوحي بدموع على وشك الانهمار ...
وقفت أنا و قلت :
" معذرة ... صغيرتي "
التفتت رغد نحوي بعصبية و قالت بحدة :
" أنت أسكت ... آخر من يُسمح له بالكلام "
صعقت بهذا الرد الجارح و علاني الصمت العميق ...
الجو صار مشحونا بتيارات متعارضة متضاربة ، و النظرات أخذت تصطدم ببعضها محدثا فرقعة !
و الآن ؟؟
خرجت رغد مسرعة من الغرفة في غضب و استياء ...
بقينا بعد خروجها بعض الوقت صامتين منصتين لفرقعة نظراتنا الحائرة !
وقف سامر هاما باللحاق بها ، ألا أن أمي طلبت منه أن يلتزم مكانه ...
" دعوها فهي اليوم في مزاج شديد التعكر "
قالت هذا أمي ، فعقبت دانة :
" اليوم فقط ؟؟ بل كل يوم ! لا أدري ما ذا جرى لهذه الفتاة مؤخرا ! "
كنت أنا لا أزال واقفا أنظر ناحية الباب ...
قالت أمي :
" اجلس بني ! "
فجلست على طرف المعقد مشدود العضلات ... على أهبة النهوض !
تنهد أبي و قال أبي :
" أمرها يقلقني "
قالت أمي :
" و أنا كذلك ، لست ُ مطمئنة للسفر و تركها ! "
قالت دانة :
" خذاها معكما ! أنا لا أطيق تصرفاتها هذه ! "
أبي التفت إلي و قال :
" احرص في التعامل معها ... كن حليما ... "
قالت دانة :
" إنها لا تزال غاضبة منك ! كان الله في عونك على مراسها هذا ! "
بعد قليل آن أوان مغادرة والدي و سامر ، الذي سينقلهما إلى المطار ثم يذهب إلى شقته في المدينة الأخرى ...
أخذت أحمل الحقائب و أنقلها إلى سيارة أخي ، و عندما انتهيت من وضع الحقيبة الأخيرة و دخلت المنزل وجدت والدتي تقف عند الباب الداخلي ...
قالت :
" أعطاك الله العافية يا بني "
" عافاك الله أماه "
هممت بالدخول إلا أن أمي أمسكت بذراعي و استوقفتني ...
" وليد "
نظرت إليها بحيرة ... قلت :
" نعم أمي ؟؟ "
أمي تحدثت بصوت منخفض ، و بنبرة جدية ... و تعبيرات قلقة ، قالت :
" انتبه لرغد جيدا يا بني "
تعجبت ! قلت :
" بالطبع أمي ! "
أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها و قالت :
" كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن ... كتبه الله لنا هذا العام ... هكذا قضت الظروف يا بني "
و هذا زادني حيرة !
قالت :
" لو أن الظروف سارت على غير ذلك ... لكانت الأوضاع مختلفة الآن ... لكنه قضاء الله يا ولدي ... سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوّضك خيرا مما فاتك ... فلنحمده على ما قسم و أعطى "
التفتنا لها و رددنا التحية . الحمد لله ، تبدو أكثر هدوءا هذا الصباح !
قالت دانة :
" تناولنا فطورنا قبلك ! "
قالت رغد :
" غير مهم "
قالت دانة و هي لا تزال تقلب بصرها في محتويات الثلاجة :
" إنني حائرة ما أطهو للغذاء اليوم !؟ ماذا تودان ؟؟ "
و نظرت باتجاهي ، فقلت :
" أي شيء ! كما يحلو لك "
ثم نظرت باتجاه رغد و سألتها :
" ما ذا تقترحين ؟؟ "
قالت رغد :
" لا شيء "
" لا شيء ؟؟ "
" لا تعملي لي حسابا فأنا حين أرغب بشيء سأصنعه بنفسي "
قالت دانة بعد تنهد :
" أما زلت ِ على ذلك ! أف ٍ منك ! "
رغد انسحبت فورا من المطبخ ...
وضعت أنا الأواني في أماكنها و قلت لدانة :
" دانة ... لا تكوني فظة معها ! "
" أنا يا وليد ؟؟ ألا ترى كيف ترد علي بنفس مشمئزة ؟؟ "
" لكن .. أرجوك لا تعامليها بخشونة .. لحين عودة والدي ّ .. "
" لا تقلق . لن أتعمد إزعاجها .. تصرّف أنت معها "
مضت ساعات و الفتاة حبيسة غرفتها ... الأمر ضايقني كثيرا ... و قبل ذهابي لتأدية صلاة الظهر في المسجد طلبت من دانة أن تذهب لتفقدها ، و عندما عادت سألتها عنها فقالت :
" لم تفتح لي الباب ! عنيدة ! "
الأمر زاد من قلقي و خوفي ... و بعدما عدت ، سألتها عنها فكررت الإجابة ذاتها ...
" حسنا ... سوف ... سوف أحاول التحدث معها ... أيمكنني ذلك ؟؟ "
" حاول وليد !علك تحرز نجاحا ! "
ذهبت بعد تردد ، و طرقت باب غرفتها ...
" هذا أنا وليد "
لم ترد علي ... شعرت بخوف ... فعدت أطرق الباب طرقا أقوى و أنادي :
" رغد ... صغيرتي هل أنت بخير ؟؟ "
و لما لم تجب أصابني الجنون ... ماذا لو أن مكروها قد حل بها و نحن لا نعلم ؟؟
طرقته الآن بقوة و عصبية ...
" رغد افتحي الباب أرجوك ... "
كدت أفقد السيطرة على نفسي لو لم ينفتح الباب في اللحظة الأخيرة !
ظهرت رغد ... و راعني المظهر الذي كانت عليه ...
كيف لي أن أتحمل رؤية ذلك ؟؟
صغيرتي أنا ... مدللتي الغالية ... تتبعثر دموعها الغالية سدى لتشربها المناديل ... و ينتهي مصيرها إلى سلة المهملات ؟؟
" ماذا تريد ؟ "
قالت بصوت حزين مخنوق ... التف حول عنقي أنا و خنقني حتى الموت ...
قلت :
" ما بك صغيرتي ؟؟ "
قالت و تعبيرات وجهها تزداد حزنا و كآبة :
" ماذا تريد قل لي ؟؟ "
قلت :
" صغيرتي ... أريد أن تتوقفي عن البكاء و الحزن أرجوك ... أنا قلق عليك "
قالت :
" قلق علي ؟ "
" نعم يا رغد ... "
" و لم ؟ هل يهمك أمري ؟؟ "
" و هل هذا سؤال ؟ طبعا يهمني ! لم أنا هنا الآن ؟؟ "
" لأن والدي طلب منك ذلك ، و وجدت نفسك مضطرا للحضور . لم تكن لتحضر لأجل أحد ... خصوصا فتاة غبية تصدّق قسم الكذّابين و تُستغفل بعلبة بوضا يشتريه لها رجل مثلك ليلهيها بها قبل الرحيل "
صعقت لسماعي كلماتها ...
قفزت الدموع من عينيها قفزا و قالت و هي آخذه في البكاء بانفعال :
" تسخر مني ؟؟ أتظنني تلك الطفلة اليتيمة الوحيدة التي تخليت عنها قبل سنين و هي في أحوج الأوقات إليك ؟؟ "
" رغد "
" أسكت ... ! "
صمت ، و أنا في قلبي صرخة لو أطلقتها لحطمت زجاج المنزل ...
" لا تدعي القلق علي يا كذاّب ... لا أريدك أن تعتني بي ... فلدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي ... أفضل منك .... أليس هذا هو كلامك ؟ يا ابن عمّي الكذّاب ؟؟ "
لا إراديا رفعت يدي و ضربت الباب بقوة و انفعال من فرط الغضب ...
عندها ، توقفت رغد عن الكلام و عن البكاء أيضا ... و نظرت إلي بفزع ...
كانت النار تتأجج في صدري و لو لم أمسك أعصابي ، لكنت أحرقت المنزل بمن فيه
قلت بعصبية لم أملك إخفاءها :
" لا تتحدثي معي بهذه الطريقة ثانية يا رغد ... فهمت ؟؟ "
رغد كانت تبدو مذعورة و تنظر إلي بدهشة ...
قلت :
" إنك لا تعرفين شيئا ... لا تقلبي علي ّ المواجع و دعي هذه الأيام تمر بسلام ... أتسمعين ؟؟ "
و أوليتها ظهري و انصرفت عنها ...
جلست في الردهة ... و جلست معي و تحديدا في رأسي كلمات رغد الأخيرة ...
( لدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي أفضل منك )
تبا لك يا سامر !
بعد نصف ساعة رأيت رغد تعبر الردهة ... في طريقها إلى المطبخ ...
ألقت علي ّ نظرة غريبة ، ثم تابعت سيرها ...
لحقت بها أنا بعد قليل ، فرأيتها تقشر البطاطا و تقطعها ... كانت دانة قد انتهت من إعداد المائدة ...
قالت :
" الغذاء جاهز ... تفضل وليد "
رافقت دانة و أنا أسير ببطء و تردد ... إلى غرفة المائدة حيث الوجبة اللذيذة التي أعدتها ...
" آه فهمت ! لا تقلق ! سأعد لكما طعاما قبل انصرافي ! "
" أوه لم أقصد هذا دانة ! إن ذهبت ستبقى رغد وحدها ! "
دانه رفعت نظرها نحو السقف لتفكر ، ثم قالت :
" لكن غدا السبت و سوف تنام مبكرة ! أنت من ستظل وحيدا ! "
" لا يفرق الأمر معي كثيرا ... "
فلطالما عشت وحيدا ... لا تشاركني أيامي سوى الهموم و الذكريات ...
" فيم شردت أخي ؟ "
سألتني دانة حين رأتني سارحا ... قلت :
" دانة ... اذهبي و استدعي رغد لتجلس معنا "
" لن تفعل ! أعرفها ! "
" إذن ... دعينا نذهب نحن إليها ! "
و قرنت القول بالعمل !
رفعت الطبق الرئيسي و حملته إلى المطبخ ، و وضعته وسط الطاولة ... بينما رغد تجلس على أحد المقاعد و تأكل أصابع البطاطا من طبق أمامها
حين رأتني نظرت إلي بدهشة ، فقلت :
" أنا أيضا أحب البطاطا المقلية ! هل لي بمشاركتك ؟؟ "
و للمرة الأولى منذ عودتي للمنزل أرى ابتسامة على وجهها ـ و إن كانت ابتسامة سطحية ...
جلست على أحد المقاعد ، فقرّبت هي طبق البطاطا مني و تناولت بعضها ...
أقبلت دانة تحمل بقية الأطباق و ترتبها أمامنا واحدا بعد الآخر ...
صحيح أن رغد لم تشاركنا طعامنا و لا حتى الحديث ألا أنها على الأقل شاركتنا المائدة ، و التنظيف أيضا !
بعد عدة ساعات حضر نوّار و جالسته بعض الوقت قبل أن يخرج هو و دانه للاستمتاع بسهرة خاصة ...
نوّار شخص مغرور بالفعل و اتفق مع رغد في حكمها عليه !
بعدما خرجت دانة أدركت أنني أصبحت في البيت منفردا مع رغد !
هي كانت تجلس في غرفتها منذ ساعات ، و أنا أتجول في المنزل بملل لا أجد ما أفعله ... !
رن الهاتف فأسرعت إليه ... لأشغل نفسي به ... كنت انتظر اتصالا من والدي لكن الذي اتصل هو آخر شخص كنت أود سماع صوته ... أخي سامر !
سأل عن أحوالنا و ما إلى ذلك ، ثم طلب مني أن استدعي رغد ...
ألكم أن تتصوروا ذلك ؟؟
أستدعي رغد لكي يتبادل الأحاديث معها هو ...
رغد لم تكن تملك هاتفا في غرفتها لذلك حين أخبرتها أتت معي و جلست في نفس الغرفة تتحدث معه !
في وضع كهذا ، فإنه لمن اللياقة و الذوق أن أنصرف ... لكنني لم أرغب في الانصراف ... بل على الع** ... استرققت السمع عمدا لأعرف ما يدور بينهما من أحاديث ...
" ذهبت مع خطيبها و تركتني وحدي ! لكنني كنت أدرس ، و بعد قليل سآوي للنوم ... لا تقلق علي عزيزي "
عزيزي ؟؟
عزيزي ؟؟
لا يمكنني تحمل المزيد ... ألقيت بالصحيفة التي كنت أتظاهر بقراءتها و نهضت مستاءً و ذهبت إلى غرفة سامر ، و ذرعتها جيئة و ذهابا حتى صدّعت أرضها !
تناولت إحدى السجائر ـ و التي كنت على وشك الإقلاع عنها ـ و خرجت من الغرفة ، و من المنزل ، إلى الفناء الخارجي رغبة في التدخين ...
إلى أن تنتهي الأيام المتبقية لي في هذا المنزل فإنني بالتأكيد سأتدهور و أعود إلى الصفر ...
سمعت الباب يفتح بعد خروجي ببرهة ... و أتت رغد
" إلى أين تذهب ؟؟ "
التفت إليها و قلت :
" ليس لأي مكان ... سأدخن هنا فقط "
قالت :
" لا تخرج وليد ، أنا وحدي "
وحدك ؟ أليس ( عزيزك ) معك ؟؟ عودي إليه !
" أعرف "
توقعت بعد ذلك أن تعود للداخل لإتمام مكالمتها ، لكنها على الع** من ذلك خرجت و وقفت قرب الباب ... تراقبني !
قالت :
" يجب أن أخلد للنوم الآن ... أغادر عند السابعة و النصف صباحا "
" حسنا . اطمئني ، سأنهض في الوقت المناسب "
صمتت قليلا ، ثم قالت :
" ألن تنام الآن ؟؟ "
" لا ! لا يزال الوقت مبكرا بالنسبة لي ، كما و أنني سأنتظر دانة ... اذهبي أنت "
و ظلت واقفة مكانها ...
و حين رأت علامات التعجب فوق رأسي قالت :
" ألن تأتي معي ؟؟ "
" إلى أين ؟؟ "
" إلى الداخل "
" سأبقى هنا لبعض الوقت ! "
و لم أر منها أي بادرة تشير إلى أنها تعتزم الدخول !
" ما المشكلة ؟؟ "
" لا تخرج وليد رجاء ً "
" لا أنوي الخروج أبدا ... "
" إذن أدخل "
يا لهذه الفتاة ! ألم تعد تصدقني أبدا ؟؟ أم تظن أنني سأرحل و أتركها و دانة هكذا ؟؟
تخلصت من سيجارتي ، و دخلت معها . هي ذهبت للنوم و أنا بقيت أشاهد التلفاز لساعتين ، حتى عادت دانة من سهرتها !
" وليد سأذهب و نوّار غدا لشراء بعض حاجيات منزلنا عصرا و قد أغيب حتى الليل "
" و رغد ؟؟ تتركينها وحدها ؟؟ "
" لا ! أتركها معك ! "
في صباح اليوم التالي نهضت باكرا و استعددت لمرافقة رغد إلى الجامعة ...
كنت في المطبخ و قد أعددت بعض الشاي و جعلت أحتسيه ببطء .. و أراقب عقربي الساعة اللذين يقتربان من السابعة و النصف ...
و أخيرا ظهرت رغد !
أهناك أجمل من أن تستقبل صباحك برؤية وجوه من تحب ؟؟
قلت :
" صباح الخير ... صغيرتي "
ردت بشيء من الخجل ... !
قلت :
" أأ ... أ نذهب الآن أم .. ترغبين بتناول الفطور ؟؟ "
نظرت رغد نحو إبريق الشاي الذي أعددته ، و قالت :
" هل من مزيد ؟؟ "
قلت متوترا :
" نعم ، أعتقد ، أجل ... تفضلي "
و أنا في خشية من ألا يعجبها طعم الشاي البسيط الذي أعددته !
سكبت لها قليلا منه في أحد الأكواب و رشفت منه قليلا
لم يظهر على وجهها أي استياء
الحمد لله ! فشايي مقبول الطعم !
و بعدها شربت المقدار كاملا ، ثم غادرنا المنزل
الجو كان منعشا جدا و من خلال نوافذ السيارة النصف مفتوحة تتسلل تيارات الهواء الباردة عابثة بشعري !
رغد كانت تجلس خلفي ملتزمة الصمت ... و رغم برودة الجو ، ألا أن مجرد وجودها في الصورة يكفي لجعل الحريق ينشب في داخلي ....
في عصر ذلك اليوم و بعدما خرجت دانة مع خطيبها بقينا وحدنا في المنزل ، هي في غرفتها كالعادة ، و أنا لا أجد ما أفعله !
شعرت بملل شديد و أجريت عدة مكالمات مع بعض معارفي من أجل تمضية الوقت ألا أن الساعات مرت بطيئة جدا ...
لم لا أخرج في نزهة بسيطة ... و آخذها معي ؟؟
أتراها ترحب بذلك ؟؟
أ أكون مجنونا إن طلبت ُ هذا ؟؟
لم لا أجرّب ؟!
ذهبت إلى غرفتها و طرقت الباب ، و بعد قليل فتحته ...
" هل أنت مشغولة ؟؟ "
" أهناك شيء ؟؟ "
" كنت ... أرغب بالخروج للتنزه لبعض الوقت و شراء بعض الحاجيات "
و بدا على وجهها الاعتراض و قالت بسرعة :
" و تتركني وحدي ؟؟ "
قلت :
" لا ، لا ... أصطحبك معي ... إن كنت لا تمانعين ؟ "
ترددت رغد قليلا ثم قالت :
" حسنا و لكن لفترة قصيرة فأنا أريد أن أذاكر "
" نعم ، لساعة لا أكثر "
و خرجنا معا ...
حينما مررت قرب إحدى الصيدليات أوقفت سيارتي و هممت بالنزول قائلا :
كنت أنوي شراء ما نفذ من أدويتي ، و بعض الأشياء الأخرى ...
تجولت بالسيارة على الشوارع الداخلية للمدينة ... و مررنا بعدة محلات و متاجر ...
سألتها بعد ذلك عما إذا كانت ترغب في شراء أي شيء ، أجابت بالنفي ، قلت :
" و لا حتى ... بعض البوضا ؟؟ "
قالت :
" البوضا ثانية ؟؟ لم ؟ هل قررت الرحيل هذه الليلة ؟؟ "
انزعجت من كلامها فقلت :
" و هل أنا مجنون لأرحل و أترككما وحدكما ؟؟ "
قالت :
" لا ... لست مجنونا "
ثم أضافت :
" إنما كذاّب "
عند هذه اللحظة قررت إنهاء جولتنا القصيرة ، و عدت إلى البيت .
لم أنطق بكلمة بعد ، و دخلنا المنزل و ذهبت هي مباشرة إلى غرفتها و بقيت أنا في الردهة ، أكثر ضيقا مما كنت عليه قبل خروجي ...
لماذا لا تتوقف عن نعتي بهذا ؟؟
ألا تدرك أنها تجرحني ؟؟
يجب أن أضع نهاية لهذا الموقف ...
فيما بعد ... ذهبت لأسألها عما إذا كانت ترغب في أن نحضر عشاء ً من أحد المطاعم ، بما أن دانة ستتناول عشاءها مع خطيبها ...
كان باب الغرفة مفتوحا و كانت هي تستعرض بعض لوحاتها ...
" أيمكنني أن أتفرج عليها ؟؟ "
" حسنا ... هذه الجديدة "
كانت الرسومات جميلة و متقنة ... و فيما أنا أتفرج عليها واحدة تلو الأخرى رأيت شيئا أذهلني !
أتذكرون صورتي التي رسمتها رغد في السابق ! كانت ضمن المجموعة ... إلا أن شيئا قد تغير !
كانت العينان حمراوين !
عندما وقعت يدي و عيني على هذه الصورة ، أسرعت رغد بسحبها مني !
قلت :
" دعيني أرى ! "
قالت بارتباك :
" هذه لا ! "
قلت :
" ماذا فعلت ِ بعيني ّ ؟؟ "
قالت :
" لا شيء ! "
" لكن لم طليتهما باللون الأحمر ؟ "
نظرت نحوي بحدة و قالت :
" هكذا هي عيون الكذابين "
اشتططت غضبا و رميت ببقية اللوحات على المكتب و خرجت من الغرفة ...
و نسيت أمر العشاء و كل أمور الدنيا عدا موقف رغد المزعج مني ...
و من حينها بدأت أعاملها بالمثل ... ببعض الجفاء .
توالت الأيام ، و الأجواء بيننا متنافرة ، أقوم بواجباتي بمصمت و لا أتبادل أحاديث تذكر معها ... حتى أقبل يوم الأربعاء ، و هو اليوم الذي يأتي سامر فيه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معنا ...
مع اقتراب موعد حضوره تعمدت ملازمة الغرفة فأنا لا أريد أن أشهد استقبالا حميما من النوع الذي يقرح المعدة ... بين الخطيبين ....
و أول حديث دار بينه و بيني :
" ألا يمكنك أخذ إجازة من الآن يا سامر ؟ "
" لا أستطيع ! و لكن ... هل واجهت أي مشاكل ؟؟ "
" لا ، غير أنني سئمت و أود المغادرة ! "
و انتهزت فرصة تواجد سامر و قضيت معظم الوقت خارج المنزل ...
ليس لأنني أرغب في الترويح عن نفسي بل لأنني لا أرغب في التواجد في مكان يجمعهما ...
و مهما توهمت أنها عادت لي ، في النهاية ... استيقظ على الواقع المر ... أنها أصبحت له .
أخبرني سامر بأن وليد أبلغه عن سأمه من رعايتنا أنا و أختي دانة !
الأمر أزعجني كثيرا ... رغم أنني أعرف أنه لا يهتم بنا .. أو على الأقل لا يهتم بي .
لم تكن بالفترة الهينة تلك التي قضيتُها مع وليد تحت سقف واحد !
كنت أجبر نفسي على التظاهر بالاستياء و الانزعاج منه لأكتم حقيقة تصرخ في داخلي ... أنا سعيدة بوجوده و أكاد أطير فرحا ...
و فرحتي هذه تنتهي في الليل ببحر من الدموع و الآهات ، للمصير الذي ينتظرني
ليت أحدا يشعر بي !
ليت أحدا ينقذني !
سامر كانت يتحدث معي بلهفة و شوق ... و كلما رأيت منه هذه المشاعر كرهت نفسي و كرهت الدنيا أكثر فأكثر ...
لم يكن لدي سوى نهلة أبثها همومي ...
و سأدعوها الليلة لقضاء بعض الوقت معي بعد أن يغادر سامر
وليد كان قد خرج منذ الصباح و لم يعد حتى الآن !
إنها الرابعة عصرا و سامر يريد الذهاب ...
ألهذا الحد هو ـ أي وليد ـ متضايق من وجوده معنا و لم يصدق أن جاء سامر ليخرج دون عودة !
" تأخر وليد ! سأتصل به "
قال سامر ، فعقبت :
" ربما رحل ! "
نظر إلى سامر باستغراب و قال :
" رحل ! مستحيل طبعا ! كيف يرحل هكذا ؟؟ "
قلت :
" إنه يرحل هكذا دون مقدمات ! أم نسيت ذلك ؟؟ "
" لكن الآن مستحيل "
و ذهب للاتصال به .
عندما فرغ من مكالمته قال :
" إنه في طريقه إلى هنا "
و شعرت بالاطمئنان ...
قلت ُ :
" متى ينقضي هذا الأسبوع ... "
كنت أعني أن تعود أمي و يعود أبي ، و تعود الأمور إلى أماكنها ، إلا أن سامر فهم حسب مزاجه !
ابتسم ابتسامة لطيفة و أمسك بيدي و قال بصوت حنون :
" أنا أيضا أنتظر على نار ! متى يا رغد ! متى ينقضي ! "
و لم ينقذني من نظراته تلك غير رنين الهاتف ...
أسرعت إليه و كان والدي على الطرف الآخر ...
كان والداي يتصلان من حين لآخر خلال الأيام المنصرمة ، و هذه المرة تعمدت الإطالة في الحديث معهما و استدعيت دانة من أجل وضع حواجز بيني و بين نظرات سامر ...
أنا لم أعد أحتمل ... ليتني أستطيع قول شيء ... سامر ... سامحني ... لكني لا أحبك ... و لا أريد الزواج منك ! ألا تلاحظ ذلك ؟؟ بعد قليل وصل وليد ...
قال سامر ممازحا :
" ما هذا يا رجل ! أخبرني أين كنت تتسكع كل هذه الساعات !؟ "
وليد لم يبد عليه أي علامات المرح ! بل كان عابسا !
قال سامر :
" علي ّ أن أذهب الآن ... "
ثم أضاف و هو ينقل بصره بيني و بين دانة :
" اعتني بشقيقتي و عروسي جيدا ! "
قال وليد بنبرة حادة تنم عن الاستياء :
" لست ُ بحاجة لتوصية ، ماذا تظنني كنت ُ أفعل ؟ أتركهما و أتسكع في الشوارع ؟؟ "
فوجئنا أنا و سامر و دانة بالنبرة الغريبة التي تحدث بها وليد ، و كلماته الجدية القوية !
سامر قال :
" كنت أمزح يا رجل ما بك ! ؟؟ "
لم يرد وليد ... بل جلس على المقعد ، و نزع ساعته و أخرج هاتفه المحمول و محفظته و مفاتيحه من جيبه و وضعها جميعا على المنضدة و أسند رأسه إلى المسند بشكل يفهم الناظر إليه بأنه مستاء جدا ...
تبادلنا نحن الثلاثة النظرات ... المتعجبة
قال سامر :
" ما بك وليد ؟؟ "
" لا شيء "
" تبدو مستاء ً ... هل حدث شيء ما ؟؟ "
" قلت ُ لك لا شيء ! ألا تسمع ؟؟ "
صمت الاثنان قليلا ، ثم قال سامر :
" إن كان البقاء هنا يزعجك لهذا الحد ... "
و لم يتم إذ أن وليد قال مقاطعا :
" أنا هنا الآن ... انصرف مطمئنا على عروسك و أختها ... إن هي إلا أيام فقط و ينتهي كل شيء "
لم يجرؤ أحدنا على النطق بكلمة بعد ...
رافقنا سامر إلى البوابة الخارجية و قبل انصرافه قال :
" هل هناك شيء ؟؟ هل هو عصبي هكذا معكما ؟؟ "
دانة قالت :
" لا مطلقا ! على الع** تماما ، لكن ... اعتقد أن شيئا ما حدث معه و هو في الخارج ! "
عندما عدنا للداخل ، وجدنا وليد و قد اضطجع على المقعد و غطى عينيه المغمضتين بذراعه ...
شعرت ُ بالقلق الشديد عليه ... إذ يبدو من تصرفه و منظره الآن أن شيئا ما قد ضايقه كثيرا ... فهل هو مستاء من البقاء معنا ؟؟
قالت لي دانة :
" سيمر نوّار لاصطحابي إلى السوق بعد قليل "
" ماذا ؟؟ ستخرجين و تتركيني ؟؟ "
" ألن تأتي نهلة لزيارتك الليلة ؟؟ "
" بلى و لكن إلى ذلك الحين ، هل سأظل وحدي ؟؟ "
" وحدك ؟؟ و معك كل هذا ؟؟ "
و أشارت بيدها نحو وليد
قلت ُ بقلق :
" إنه يبدو مخيفا ! "
ضحكت دانة و قالت :
" حتى وليد !؟ أخشى أنك تشعرين بالخوف من زوجك أيضا ! "
و انصرفت إلى غرفتها تستعد للخروج ...
بقيت ُ أنا واقفة أراقب وليد الذي يبدو أنه نام !
خطوة خطوة ، بهدوء تام اقتربت ُ منه !
كان لدي فضول لألقي نظرة عن كثب على الأشياء التي وضعها على المنضدة !
يبدو شكل ميدالية المفاتيح جذابا ! مع أنه قديم !
مددت يدي بحذر حتى أمسكت ُ بالميدالية و حركتها ببطء فأصدرت صوتا خفيفا ، راقبت وليد بتمعن ، و لم ألحظ عليه أي حركة ...
الآن الميدالية في يدي ! ما أكثر المفاتيح !
و الآن ، هل أستطيع أن ألقي نظرة على الهاتف أيضا ؟؟ إنه من طراز مختلف عن هاتفي سامر و أبي !
مددت يدي نحو الهاتف و لم أكد ألمسه !
" ماذا تفعلين !؟ "
قال وليد فجأة وهو يزيح ذراعه عن عينيه و ينظر إلي !
جفلت ُ و أصبت ُ بالروع فانتفضت ُ فجأة !
وقعت المفاتيح من يدي على المنضدة
هم وليد بالجلوس و رأيت وجهه شديد الإحمرار و زخات من العرق تلمع على جبينه ...
شعرت ُ بارتباك ٍ شديد و قبل أن يستوي جالسا أطلقت ساقي للريح و فررت هاربة !
في غرفتي بعد ذلك تنفست الصعداء !
كم يبدو مخيفا هذا الرجل !
هل ظن أنني أحاول سرقته ؟؟
ما الذي دفع بي إلى حماقة كهذه !
عندما أخبرت ُ نهلة بالأمر لاحقا انفجرت ضاحكة
كنت قد اصطحبت ُ نهلة إلى غرفتي كالعادة ، و تركت وليد في البداية مع حسام ثم وحيدا بعد انصرافه
عادة ما تطول جلساتنا أنا و نهلة و بالتالي سيظل وليد وحيدا في المنزل ، و أخشى أن يخرج ...
" سوف أذهب لأتأكد من وجوده ! "
" هيا رغد ! لا أظنه سيغادر و هو يعلم أنك وحدك ! "
" بل أنت ِ معي ! "
قالت نهلة و هي تنفخ صدرها و تقطب حواجبها و ترفع كتفيها ـ كعادتها حين تتقمص شخصية رجل :
" ما دمت ُ معك ِ فلسنا بحاجة لوجود أي وليد ! "
خرجت ُ من الغرفة لهدفين : لجلب بعض العصير ، و لتفقد وليد !
و الهدفان وجدتهما في المطبخ !
واحد بارد
و الثاني حار !
هو يجلس على المقعد يقلّب صفحات إحدى الصحف ، لكني متأكدة من أن عينيه تخترقان الأوراق !
تناولت ثلاثة كؤوس و ملأت اثنين منها بالعصير البارد الذي أعددته قبل ساعة و وضعتهما في صينية ...
" دعينا من ذلك ، ما رأيك بالخروج معي إلى السوق غدا سأشتري ملابس للعيد !؟؟ "
نهلة استجابت لرغبتي في محي الألم ، و قالت مشجعة :
" فكرة رائعة ! "
بعدما انصرفت نهلة ، و كان ذلك قرابة العاشرة مساء ً ، بحثت عن وليد فوجدته يشاهد التلفاز في غرفة الضيوف ...
" وليد "
لم يجب ، فقط نظر إلي ...
" أنا آسفة لكنني أخشى البقاء في البيت مع ابنة خالتي وحدنا "
لم يعلّق !
قلت :
" دانة لم تعد "
" أعرف "
" أأ ... أردت أن أطلب منك شيئا ... إن سمحت "
" تفضلي ؟؟ "
" غدا أود الذهاب إلى بيت خالتي لأصطحب نهلة إلى السوق ... ممكن ؟؟ "
" حسنا "
و أبعد نظره عني ، إلى التلفاز !
قلت :
" أترافقنا إلى السوق ؟ "
قال بنفاذ صبر و ضيق :
" ألم أقل حسنا ؟؟ إذن حسنا "
لم تعجبني الطريقة التي تحدث بها ... و لكني أردت أن أوضح الأمر أكثر :
" أعني أن تلازمنا أثناء التسوق ... أيمكنك ذلك ؟؟ "
قال بنبرة ضايقتني كثيرا جدا :
" نعم ، كما تأمرين يا ابنة عمي ... ألست ُ هنا لحراستك ؟ سأنفذ وصايا خطيبك و والديه بدقة ، ماذا بعد ؟؟ "
وقفت مذهولة من جملته هذه ... فهل يظن هو أن وجوده يعني فقط مهمة حراسة و خدمة موكلة إليه سينتهي منها و يختفي من جديد ؟؟ هل أعني أنا له فقط مهمة مؤقتة مجبور على تنفيذها كارها ؟؟
قلت بانفعال :
" انس الأمر ، لن أذهب معك لأي مكان "
و خرجت من الغرفة بسرعة ، و إلى غرفتي ... و إلى دموعي !
دقائق و إذا به يقف عند الباب ...
" أنا آسف رغد ! أرجوك لا تبكي بسببي "
مسحت دموعي و قلت بعصبية:
" أنا الآسفة لأنني حملتك ما لا ترغب في تحمله ! و لكن من كان ليرافقني و أبي و سامر غائبان ؟؟ من كان سيهتم لأمري و أنا لا أهل لي سواكم ؟؟ "
قال :
" لم أقصد ... أرجوك لا تسيئي فهمي "
قلت :
" حسام لا يوافق أبدا على مرافقتنا إلى السوق و إلا لكنا ذهبنا معه ... إن هي إلا أيام و تتخلص من هذا العبء الثقيل و مني "
وليد قال بعصبية :
" قلت لك لم أقصد هذا .. سأرافقكما إلى حيث تشاءان توقفي عن البكاء الآن "
وليد كان مستاءا جدا كما ظهر من تعبيرات وجهه و انفعاله
كتمت دموعي رغما عنها ، و أنهيت المشادة بسلام ...
في اليوم التالي رافقنا إلى السوق و اشتريت الكثير من الحاجيات .. و الأسواق كانت مزدحمة جدا بالناس ! فغدا هو عيد الحجاج !
و كان من بين ما اشتريت هدية لدانة و أخرى لوليد ! طبعا لم أدعه يلحظهما ...
كان يسير إلى جانبنا و يساعدنا في حمل الأكياس ! و نهلة بين حين و آخر تلقي بتعليقاتها المداعبة حوله !
اعتقد أنني بالغت كثيرا في تسوقي ! و بالتأكيد شعر وليد بالضجر ... إلا أن وجوم وجهه منعني من تقديم أي اعتذار !
عندما أوصلنا نهلة إلى بيتها دخلت معها لبعض الوقت لألقي تحياتي على العائلة ، و خرج حسام و تحدث مع وليد ...
اخترت هدية لدانة هذه المرة علبة أنيقة لحفظ المجوهرات ، أما لوليد ـ و لأنني لا أفهم في هدايا الرجال و قلما أهدي أبي أ و سامر شيئا ـ فقد اشتريت له ميدالية مفاتيح أكثر جمالا و أناقة من ميداليته الحالية !
كنت سعيدة بما اشتريت ! هل ستعجبه هديتي ؟؟
عندما عدنا للبيت وجدنا دانة و قد دعت خطيبها لقضاء أمسية معها في المنزل ...
ما أن علم وليد بوجود نوار حتى سأل دانة :
" متى سيغادر ؟؟ "
قالت :
" منتصف الليل ! لم ؟؟ "
قال :
" مادام موجودا هنا إذن أستطيع الخروج قليلا ! "
و نظر باتجاهي ...
لم يكن باستطاعتي منعه ... لكنني اغتظت ُ من إثباته مرة بعد أخرى بأنه يفتش عن أقل فرصة ليغادر المنزل ... و يبتعد عني ... هذا أثار جنوني و سخطي الشديد !
و مرت الساعات و أنا وحيدة في غرفة المعيشة ... دانة تستمتع بوقتها مع خطيبها المغرور في ليلة العيد و وليد يتجول في مكان ما ... و أنا مرغمة على مشاهدة التلفاز وحيدة !
أُف ... متى يعود هذا ؟؟
و اقتربت الساعة من الثانية عشر منتصف الليل ... أنا أشعر بالنعاس و لكنني لا أستطيع النوم قبل أن يعود !
لماذا لم يعد حتى الآن ؟؟
هل فعلها و رحل ؟؟
طبعا مستحيل ...
كنت ُ على وشك الاتصال به حين سمعت صوت الباب ينفتح ، فأسرعت نحو المدخل و رأيت وليد يدخل و يغلق الباب خلفه
حين رآني قال :
" ألا زلت ِ مستيقظة !؟ "
قلت بتوتر :
" لماذا تأخرت ؟؟ "
قال :
" هل حدث شيء ؟ "
قلت :
" و هل كنت تنتظر أن يحدث شيء حتى تعود ؟؟ لا تدعني وحيدة هكذا ثانية "
و زادني حنقا البرود الذي قابلتني به نظراته !
و ببساطة قال :
" حسنا "
ثم سار ذاهبا إلى غرفة سامر !
لماذا يعاملني بهذا البرود ؟؟ أكاد أجن ... لم لا يدع لي فرصة لأعطيه هديته ؟؟
بعد نصف ساعة غادر نوّار ، و تعجبت دانة لدى رؤيتي ساهرة لهذا الوقت أمام التلفاز !
" متى ستنامين ؟؟ "
" متى ما شعرت بالنعاس ! "
و تركتني هي و أوت إلى فراشها ... ففكرت في إهدائها الهدية غدا ...
الساعة الثانية عشر و النصف ، رأيت جاء وليد يقدم إلى غرفة المعيشة ...
كان شعره مبللا ... لابد أنه كان يستحم !
قال :
" ألم تنامي بعد ؟؟ "
قلت :
" لا أشعر بالنعاس ... أصابني الأرق و الإجهاد ! "
لم يكترث لي ، بل ذهب إلى المطبخ ، ثم عاد و مر بي قبل ذهابه للنوم ... قال :
" تصبحين على خير "
و أولاني ظهره ...
سيطر علي الغضب من إهماله لي ! قبل أن ينصرف ناديته بسرعة :
" وليد "
استدار إلي و لم يتكلم بل انتظر سماع ما سأقوله ...
أنا فقدت شجاعتي التي كنت أتوهم امتلاكي لها ... و وقفت بخجل و ارتباك و أنا اخفي العلبة خلف ظهري !
وليد راقبني بحيرة و ضجر !
اقتربت منه شيئا فشيئا و أنا مطأطئة الرأس خجلا و بالتأكيد وجنتاي متوهجتان احمرارا !
رفعت بصري بحياء و قلت :
" كل عام و أنت َ بخير "
ثم أظهرت الهدية و قدّمتها إليه :
" هذه ِ لك "
لقد كانت يداي ترتجفان و أنا أقدمها نحوه ، و بالتأكيد لحظ هو ذلك ...
نظراتنا الآن متشابكة ... كنت أبحث عن أي كلمة شكر أو إشارة سرور ... و أخيرا ابتسم وليد ابتسامة جميلة مذهلة و قال بارتباك ...
" و ... أنت ِ بخير ! ... أأ ... شكرا ! "
وليد مدّ يده و أمسك بالهدية ...
قال :
" هل أفتحها ؟؟ "
غضضت ُ بصري حياء ً و قلت :
" كما تشاء "
و هم هو بفتحها ، بينما قلبي أنا يخفق بشدة !
لكن الصوت الذي سمعته ليس صوت انفتاح العلبة ، بل صوت انفتاح باب ...
رفعت نظري إليه و حدقنا ببعضنا برهة ، و نحن نسمع صوت باب المدخل ينفتح ...
شعرت بذعر ...
قلت :
" ما هذا ؟؟ "
وليد سار ببطء و حذر ذاهبا ناحية الباب و تبعته أنا بخوف ...
قال وليد قبل أن يصل إلى المدخل :
" من هناك ؟؟ "
أنا أردت أن أمسك بيد وليد من الذعر ... ربما يكون أحد اللصوص ...
وليد أشار إلي أن ألزم مكاني ، و تقدم هو نحو المدخل ...
أوشك قلبي على الوقوع أرضا ...
و للمفاجأة المذهلة رأينا سامر يظهر أمامنا !
وقفنا متسمرين في مكانينا في ذهول !
قال وليد :
" سامر !! "
سامر نظر إلينا بدهشة هو الآخر ، و قال :
" آه ! أنتم مستيقظون ؟ "
قال وليد :
" هل هناك شيء ؟؟ "
قال سامر :
" أردت ُ أن أفاجئكم بظهوري غدا ! لكن أُفسِدت ْ المفاجأة ! "
و رغم أنني نمت متأخرة على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا ...
لم يكن أحدهم قد نهض آنذاك ، و بعد قليل نهضت دانة و ذهبنا للمطبخ لإعداد كعكة العيد !
دانة كانت مفعمة بالحيوية و النشاط أما أنا فكنت في غاية ال**ل و الملل و الكآبة أيضا ...
بعد مدة اجتمعنا نحن الأربعة حول مائدة الفطور ... و تناولنا حصصنا من الكعكة ...
سامر كان متحمسا جدا و منفعلا ، و يتحدث عن النزهات التي ينوي القيام بها هذا اليوم ...
قالت دانة :
" أنا لن أشارككم فأنا سأخرج مع خطيبي ! "
قال وليد :
" و أنا سأخرج الآن "
و نهض مباشرة ...
سامر قال :
" إلى أين ؟؟ "
" سأتجول في المنطقة "
و سرعان ما غادر
قال سامر :
" ما به ؟ لا يبدو طبيعيا ! "
قلت :
" إنه يريد الرحيل "
قال :
" لن يغادر قبل زفافنا على أية حال ! "
ثم ابتسم ابتسامته التي تزعجني و هو يقول :
" بعد أيام فقط ... "
أهداني سامر زوجا من الأقراط الذهبية ، أما أنا فأهديته إحدى لوحاتي !
لم تكن لدي فكرة عن شيء جديد أهديه إليه !
قضينا نهار العيد ، أنا و سامر نتجول من مكان لآخر ...
و عند العصر ، و نحن في الطريق إلى البيت قال سامر :
" حصلت على هذا اليوم بصعوبة ، لا زال أمامي مشوار العودة الطويل "
قلت :
" أنت تكلف نفسك مشقة ! ما كان يجدر بك الحضور ! "
سامر التفت إلي باستغراب و قال :
" لا أحضر ؟؟ في يوم مميز كهذا ؟؟ "
قلت :
" أقصد .. مشقة السفر ... حضورا و ذهابا ... "
قال :
" لأجلك أنت ِ "
صمت ، و أخذت أراقب الأشياء المتحركة من حولي من خلال النافذة ...
بعد قليل ، قال سامر :
" لم كنت ساهرة لذلك الوقت المتأخر ... البارحة ؟؟ "
التفت نحوه بتعجب !
قلت :
" لم أشعر بالنعاس قبلها ... "
و أضفت :
" كما و أن ... وليد كان قد عاد قبل ذلك بقليل من الخارج ، و لم أشعر بارتياح للنوم و هو خارج المنزل "
قال :
" هل ... يسهر بعيدا كل ليلة ؟؟ "
" لا ! أبدا ... فقط البارحة ، ربما حضر أحد احتفالات العيد ! "
عندما عندنا للمنزل كنا أول الواصلين
تجازوت الساعة السادسة و لم يعد لا وليد و لا دانة ... سامر بدأ يلقي بنظرة بين حين و آخر عليها في اضطراب ...
" تأخرا ! يجب أن أغادر الآن فأمامي مشوار طويل "
و المشوار بين المدينتين يستغرق ساعات يقضيها سامر في قيادة السيارة
لابد أنه متعب الآن ! فقد قضينا ساعات أيضا في السيارة ...
قام سامر و اتصل بوليد ، و يبدو أن هذا الأخير أخبره بأنه لن يعود قريبا
لذا أتى سامر و قال :
" أ آخذك إلى بيت خالتك ؟؟ "
لم أحبذ الفكرة و مع ذلك اتصلت بهم ، و لم أجد أحدا ... لابد أنهم ذهبوا أيضا للتمتع بيوم العيد ...
قلت :
" أين هو وليد ؟؟ "
" يقول أنه في مكان بعيد ، و قد يتأخر في الحضور ... "
و تنهد سامر باستياء !
إنها المرة الأولى التي يكون فيها معي و يرغب في الذهاب !
قبيل الثامنة ، خرجنا مجددا و اشترينا عشاء خفيفا من مطعم قريب و عندنا للمنزل
و أيضا لم نجد أحدا هناك ...
عاود سامر الاتصال بوليد بعد العشاء ...
" إن علي ّ الذهاب الآن ... فمتى ستعود ؟؟ "
و من خلال تعابير سامر المستاءة استنتجت رد وليد !
قال سامر :
" و الآن هل لا حضرت ؟؟ "
بعد أقل من ساعة من المكالمة وصل وليد ...
بادره سامر بالعتاب :
" تأخرت يا وليد كثيرا .. متى سأصل إلى شقتي ؟؟ "
قال :
" شاركت الآخرين مهرجانات العيد ... لا أحد يبقى في المنزل في يوم كهذا "
فهمت أنه يقصد أن وجودي يعيقه عن الترفيه عن نفسه في يوم مميز ...
التزمت الصمت ... قال سامر :
" سأذهب الآن ... "
و صافحني ، ثم صافح وليد و قال :
" تصبحان على خير "
بقيت مع وليد ... وحيدين في المنزل ...
حينما رأيت الضجر باد عليه قلت :
" إن كنت تود الذهاب لمتابعة سهرتك في مكان ما ... فخذني إلى بيت إحدى صديقاتي ثم اذهب "
و ببساطة تجاهلني !
قلت بغضب :
" وليد أنا أتحدث معك ! "
الفت إلي و قال :
" أسمعك ، لكنني لست أبلها لأفعل ذلك "
صمت قليلا ، ثم قلت :
" أنا آسفة ... للتسبب بإزعاجك طوال هذه المدة ... بقيت بضع أيام "
لم يرد ...
قلت :
" أنا أستطيع المكوث في بيت خالتي ، لكن المشكلة مع دانة ... و إلا لكنا وفرنا عليك عناء البقاء معنا "
رماني وليد بنظرة مخيفة أخرست لساني !
لم أشأ أن أتركه وحيدا و أنعزل في غرفتي ... أحضرت كراستي و عدّة الرسم إلى غرفة المعيشة ، حيث يجلس هو ، و بدأت أرسم !
وليد كان يتصفح قنوات التلفاز و لا يجد فيها من يجذبه للمتابعة
لكنه مهووس على ما يبدو بالأخبار ...
بعد قليل ، أوقف وليد التلفاز و أخذ الهاتف ، و طلب أحد الأرقام ...
أنا لم أكن أرسم بقدر ما كنت أراقب تحركاته ...
و هاهو يتحدّث إلى الطرف الآخر :
" مرحبا ، أنا وليد شاكر "
( .................. )
" أهلا بك آنسة أروى ، كل عام و أنتم بخير ، كيف هي أموركم ؟؟ "
تركت ُ القلم من يدي و أصغيت ُ باهتمام ...
" ماذا ؟؟ متى حدث ذلك ؟؟ "
( .................... )
" أوه ... أنا آسف ... و كيف حالتها الآن ؟؟ أهي أفضل ؟؟ "
( .................... )
" لا تقلقي ، بلغيها و العم سلامي ... و أخبريهما بأنني سأعود في أقرب فرصة إن شاء الله "
( .................. )
" شكرا لك ِ ، وافوني بأخباركم أولا بأول ، تصبحين على خير "
و أنهى المكالمة ...
و عاد و شغّل التلفاز ، إلا أنه كان شاردا ...
من تكون أروى هذه ؟؟
تركت ُ اللوحة جانبا ، و قلت ُ بعد تردد قصير ضعيف غلبه الفضول الشديد :
" وليد "
" نعم ؟؟ "
" من كنت تحدّث ؟؟ "
بدا عليه الاستغراب ، ثم قال :
" لم السؤال ؟؟ "
" لاحظت ... استياءك من خبر وصلك من الطرف الآخر ... خيرا ؟؟ "
قال :
" زوجة صديقي رحمه الله تعرضت لنوبة قلبية و ترقد في المستشفى "
صمت ّ قليلا ثم سألته :
" و هي من كنت تتحدّث معها ؟؟ "
" كلا . هذه ابنتها "
ابنة صديقه ؟ إذن لابد أنها مجرد طفلة ! بعد قليل أوقف وليد التلفاز و نهض هاما بالمغادرة
قلت :
" إلى أين ؟؟ "
التفت إلي بانزعاج و قال :
" سأذهب للنوم ، إلا إذا كنت ِ تريدين من حارسك البقاء ساهرا لحين نومك ؟ "
لم أجب ، فأنا لم أجد الكلمات المناسبة ... و هو لا يدرك كم هي جارحة كلماته و قاسية معاملته ...
ليته يعرف !
استدار ليخرج فعدت ُ أناديه :
" وليد "
تنهّد و هو يلتفت نحوي قائلا :
" ماذا الآن ؟؟ "
تقدمت نحوه قليلا ، و فتشت في وجهه عن أي ملامح تشجعني على سؤالي ، لكنني لم أجد ... فبقيت صامتة ...
" نعم ؟؟ ماذا لديك ؟؟ "
توترت ، لكني بعدها جمعت غبار شجاعتي و قلت :
" هل أعجبَتـْـك ؟؟ "
" ما هي ؟؟ "
" الهدية ! "
وليد بعثر نظره هنا و هناك ، ثم قال :
" لا أذكر أين تركتها ... آسف ! "
هنا عند هذه اللحظة تمزّقت أوهامي ... فإن كان قد أضاع هدية أعطيتها له مساء الأمس ...قبل أن يفتحها ... فكيف بماض ولى منذ تسع سنين ؟؟
و إدراكي لحقيقة أن وليد لم يعد وليد ... قتل كل رغبة في الحياة و السعادة لدي ...
الأيام التالية قضيتها حبيسة الغرفة في أنهار من الدموع ... حتى أن دانة و التي عادة ما تتهمني بأنني أتدلل بدموعي هذه بدأت تقلق بشأني و صارت تحضر لي الطعام إلى غرفتي ...
زارتني نهلة ، و خالتي ... الجميع يحاول التحدث ليعرف سبب حزني إلا أنني لم أكن أدع الفرصة لهم ...
و عندما تتصل أمي أكتفي بكلمات بسيطة معها أو مع أبي ، و أعود إلى غرفتي ...
أما سامر ، فقد كنت أتحاشى الحديث معه قدر الإمكان ...
في إحدى الليالي ، جاءتني دانة و قالت بمرح ـ محاولة بث البهجة في قلبي ـ
" رغد ! أنت مدعوّة على العشاء معي و مع وليد في أرقى مطاعم المدينة ! هيا بسرعة وليد ينتظرنا "
هي نظرة عابرة ألقيتها على دانة ثم أشحت بوجهي عنها و قلت :
" لن أذهب "
" ماذا رغد ! هيا لا تدعي الفرصة تفوتنا ! "
" لا أريد دانة رجاء ً دعيني وحدي "
دانة اقتربت مني ... و قد غطت وجهها تعبيرات القلق و قالت :
" هيا رغد ! "
هززت رأسي اعتراضا ، فقالت :
" إذن سنذهب و نتركك وحدك ! "
كانت تعرف أن نقطة ضعفي هي الوحدة ... و أتت تستخدمها **لاح لجبري على الذهاب معهما ...
حدقت بها لبرهة ثم قلت :
" افعلا ما تشاءان "
رفعت حاجبيها دهشة و قالت :
" رغد ! معقول ! هل تخلّصت من الخوف ! "
قلت بعصبية :
" اذهبا و اتركاني وحدي ... دعيني وحدي يا دانة ... دعيني وحدي ... "
و انخرطت في بكاء مرير ...
دانة خرجت ... و بعد قليل عادت مع وليد ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
أحوال صغيرتي كانت غريبة ، و أصبحت مقلقة آخر الأيام ...
في الواقع هي كانت مستاءة جدا منذ أن قدمت ، إلا أن استياءها ازداد مؤخرا ...
كانت تحبس نفسها في الغرفة ، و لا تشاركنا لا الطعام و لا الكلام .
قررت أن نخرج معها لتناول العشاء في أحد المطاعم و من ثم التنزه فعلّ ذلك ينعشها ... إلا أن دانة أخبرتني بأنها رفضت القدوم معنا و قالت لها ( اذهبا و دعوني وحدي )
في السابق كانت دانة تترجم تصرفات رغد على أنها تدلل ، فهي متدللة جدا ... إلا أنها الآن قالت :
" أنا قلقة يا وليد ... هناك شيء تخفيه عنا ... لا أعرف ما الذي يحزنها هكذا "
كنت خلال الفترة الأخيرة أتحاشى اللقاء بها ، فلا قلبي و لا معدتي بقادرين على تحمل المزيد ... إلا أنني هذه اللحظة لم أتمالك نفسي و ذهبت مع دانة إلى رغد ...
الأخيرة كانت في غرفتها تبكي بغزارة تفطر قلب الحجر ... فكيف بقلبي أنا ؟؟ حاولت التحدث معها إلا أنها لم تستجب لي ، و قالت بعصبية :
" اخرجا و دعاني و شأني "
بقيت أيام على موعد عودة والدي ّ من رحلة الحج ... ربما يعود كل شيء على ما كان بعد عودتهما ...
و لكن إلى ذلك الحين يجب أن أفعل شيئا !
صبرت ساعة أو ما شابه ، ثم عدت إليها بمفردي ... و للأسى وجدتها لا تزال تبكي ...
حين قلت ذلك نظرت إلي رغد نظرة غريبة مليئة بالمعاني ...
" إن ... كنتِ منزعجة بسببي ... فأنا آسف ... ما هي إلا أيام معدودة و يعود والداي و سامر ... "
عندها أغمضت رغد عينيها و ارتفع صوت بكائها المرير ...
كيف لي أن أحتمل رؤيتها هكذا ؟؟
بصعوبة بالغة منعت ُ يدي من التربيت على كتفيها ... و لكنني لم أستطع منع نفسي من قول :
" صغيرتي الغالية كفى أرجوك ... لا أحتمل دموعك "
رغد قالت :
" أخرج "
و كررت الكلمة مرتين ، فغادرت الغرفة و أنا في قعر التعاسة و الكآبة ...
عند الفجر كنت في طريقي للخروج من المنزل قاصدا المسجد ...
فيما أنا أمر من غرفة المعيشة سمعت صوتا يصدر من هناك ...
سرت بحذر حتى دخلت الغرفة ، و أذهلتني رؤية رغد تبكي و تنحب هناك
" رغد ! "
التفتت إلي رغد بذعر إذ يبدو أنها لم تنتبه لقدومي ... ثم نهضت واقفة بارتباك ...
تقدمت منها ، و قلت :
" بالله عليك أخبريني ... ما بك ؟؟ "
رغد أرادت الخروج لكنني وقفت سادا فتحة الباب مانعا إياها من الخروج
" أخبريني ما بك أولا "
" دعني و شأني "
" لن أدعك حتى تخبريني "
" و لم َ تود أن تعرف ؟؟ ماذا يهمك أنت ؟؟ "
" يهمني كل شيء يتعلق بك ... كل شيء "
" كذّاب "
انقبضت عضلاتي استياء ً ... و استدرت للمغادرة ...
خطوت خطوتين ، و توقعت أن تخرج رغد من بعدي ، إلا أنها لم تخرج ...
عدت إلى الغرفة فرأيتها جاثية على الأرض باستسلام تام للدموع ...
نفس الجلسة التي كانت تجلسها و هي طفلة ، حين يعتصرها الألم ...
دنوت ُ منها حتى صرت ازاءها مباشرة ، و انحنيت و قلت بصوت أجش :
" أرجوك يا رغد .. أرجوك توقفي عن هذا و أخبريني بما يزعجك ، و أيا كان ... أنا سأزيحه عنك نهائيا "
رغد رفعت نظرها ... كأنها تطلب التأكيد ...
قلت :
" أي شيء يضايقك و يحزنك لهذا الحد ... أبلغيني و أنا أبعده عنك .. "
" صحيح ؟؟ "
" نعم يا رغد ، لا تظني أنني فقط أكذب و أدعي ... لا تعرفين كم هي غالية دموعك عندي ... "
" مهما كانت غالية ... هناك ما هو أغلى ... و هناك ما لا يمكن فعله أبدا"
" أخبريني أنت فقط ، و سترين "
رغد هزت رأسها نفيا ... و قالت :
" لا لن تفعل ! لن تستطيع شيئا ! "
" أخبريني ماذا تريدين ؟؟ "
" أريد أمي "
قلت بتعجب :
" تريدين أمي !؟؟ "
هزت رغد رأسها اعتراضا و قالت في صيحة قاتلة :
" أريد أمي أنا ... لا أمك أنت ... أنا أريد أمي ... فهي من يستطيع مساعدتي ... لو بقيت حية ... لا أحد منكم يستطيع ... هل يمكنك إحضارها إلي ؟؟ "
فوجئت بقولها هذا و شعرت بشرايين قلبي تتفجر بعنف ...
أيعقل أنها لا تزل تفكر في أمها ـ التي لم تعرفها يوما ـ حتى الآن ؟؟
أتقصّر أمي في شيء للحد الذي يجعل رغد تبحث عن المساعدة من أمها الراحلة منذ 15 عاما ؟؟
بعدما انتهت من نوبة بكائها قالت بتحد ٍ :
" هل تستطيع إحضار أمي إلي ؟؟ "
وجدت نفسي أقول :
" اعتبريني أنا أمك ... "
ثم أضفت :
" ألم أكن كذلك ذات يوم ؟؟ "
نظرت إلي رغد بيأس ...
قلت :
" لطالما كنت ِ تعتمدين علي و تثقين بي ... "
و لما لم أجد منها تفاعلا ... نهضت و أنا أقول :
" سأذهب لتأدية الصلاة "
عدت ُ من الخارج بعد قليل ، و لم أجدها ... ذهبت إلى غرفة سامر و اضطجعت على سريره و أخذتني دوامة الأفكار إلى عالم من المتاهات و الدهاليز ...
تذكرت ... يوما كنت فيه في غرفتي بمنزلنا القديم ، و سمعت طرقا خفيفا على الباب ... و حين فتحته ، وجدت رغد تبكي بألم ... مليئة بالخدوش و الكدمات ...
أعتقد أنني تعلقت بها ابتداء ً من ذلك اليوم ... و لا أعلم انتهاء ً بأي يوم ؟؟
فجأة ... سمعت ُ طرقات خفيفة بالكاد التقطتها أذناي ، ما يدل على تردد اليد الطارقة ...
قمت و فتحت الباب ... و وجدت رغد تقف عنده ...
كانت عيناها شديدتي التورم و الاحمرار ، و وجهها شديد الحزن و الكآبة ...
قلت :
" صغيرتي ... "
ما أن نطقت بذلك حتى قفزت الدموع من عينيها ... حاولت ُ تهدئتها ... فمسحت ْ الدموع و لملمت ْ شيئا من شتات قوتها و همت بالكلام ... لكن التردد كان مسيطرا عليها ...
قلت مشجعا :
" نعم صغيرتي ... قولي ما تودين ؟ "
ازدردت ريقها و سحبت عدة أنفاس ... ثم نظرت إلي نظرة مريرة ...
تراجعت ، و خطت خطوة للوراء لكنني استوقفتها :
" هيا رغد ... أنا أسمعك "
" لن تستطيع مساعدتي "
" بلى سأفعل ... قولي ماذا يحزنك ؟؟ "
هنا انفجرت بالبكاء و غطت وجهها بيديها و قالت بصوت متقطع :
"أنا ... أنا ... لا أريد أن ... أتزوج سامر "
لقد كان ذلك هو آخر شيء أتوقعه على الإطلاق ... الذهول الذي أصابني و هول المفاجأة لم يدعا لي فرصة للتفكير ... أو حتى استيعاب الموقف إلا أن الألم و المرارة التي رأيتها في عيني رغد وهي تستنجد ... و تبحث بيأس عن شخص ينقذها رغم كل اعتبار ... و القنوط الذي دفعها للتفكير في أمها المتوفاة منذ إن كانت هي طفلة صغيرة ... و شعوري بالمسؤولية عليها ... كلها أمور امتزجت مع بعضها البعض و دفعتني في النهاية لقول :
" اطمئني ، لن يكون لك إلا ما تريدين "
الآن ، دخلتُ مرحلة جديدة ... و بدأت الحلقة الأولى من سلسلة المصاعب التي واجهتها فيما بعد ...
حين سألتها ساعتها :
" تقصدين ... تأجيل الزفاف ؟؟ "
قالت و هي تنفي :
" لا أريده ... أنا لا أريده "
و عندما سألتني قبل انصرافها :
" أحقا ؟ تستطيع فعل شيء لأجلي ؟ "
أجبتها :
" أي شيء ... مهما كان .. ثقي بي "
فأي شيء أغلى و أهم عندي من راحة و سعادة رغد ؟؟
في النهار التالي بدت هي أكثر راحة و ابتهاجا ، و خرجت من عزلتها و بدأت تعود للحياة ...
شاركتنا الوجبات و الجلسات ، و النزهات ... و بدت لحد ما راضية ...
حتى أن دانة قالت لي تعليقا على تقلب أحوال رغد :
" أ رأيت ! قلت لك ! سبحان مقلّب الأحوال ! "
في يوم الأربعاء التالي ، يوم حضور سامر للزيارة ، بدت في غاية التوتر و القلق ...
طلبت منها أن تذهب إلى بيت خالتها ، كما صرفت ُ دانة مع خطيبها بشكل ما ، و بقيت وحدي في البيت أنتظر ...
عندما حضر سامر استقبلته استقبالا طبيعيا ، و حين سأل عن الاثنتين أبلغته عن أمرهما ...
تركت له فرصة ليرتاح من عناء السفر ... و بعدها أخبرته بأن هناك ما يجب أن يعرفه ...
التوتر تملكه بطبيعة الحال ... أما أنا فتظاهرت بالبرود بينما النيران تأكل أحشائي ...
أخي لم يكن يتحدث عن شيء غير الزواج المرتقب ... إنني أدرك كم هو مولع برغد و يحبها بشغف ... و أدرك معنى أن يجد المرء نفسه فجأة محروما ممن يحب و يتمنى ... كيف لي ألا أدرك هذا و أنا صاحب التجربة المرة القاسية ... ؟
لكن ... بالنسبة لي أنا ... فلا شيء يهم بعد رغد ... و كل شيء يهون من أجل رغد ...
و إن كنت ُ ارتكبت ُ جريمة من أجلها ... فهل سيصعب علي تحطيم قلب أخي في سبيل راحتها ؟؟
" خيرا يا وليد ؟؟ "
خير !؟ أتظنه خيرا يا سامر ! سامحني يا أخي فأنا ... أنا كنت ُ و لا زلت ُ مجرما ...
قلت بدون مقدمات :
" إنه بشأن زواجك "
" ماذا بشأن زواجي ؟؟ "
نظرت إليه بجدية و قلت بصوت قوي و ثابت :
" يجب تأجيله "
نظر إلي ببلاهة و عدم استيعاب :
" تأجيله ؟؟ "
" أنا جاد يا سامر . ركّز معي . زواجك سيتأجل إلى أجل غير مسمى "
" وليد ... هل لك أن تتحدّث بوضوح أكثر ؟؟ "
" بوضوح أكثر يا أخي ... العروس لا ترغب في الزواج الآن و إلى أن تحدد هي الوقت الملائم سيتم تأجيل كل شيء "
كانت هذه الجرعة الأولى التي لم استطع سقيه أكثر منها ...
سامر هاج و ماج و غضب و ثار و تخبط بجمل متعارضة متناقضة ... ثم قرر الذهاب لإحضارها من بيت خالتها
قلت له :
" ليس الآن ... سأحضرها أنا بعد قليل "
حدثت بيننا مشادة قال فيها سامر :
" أريد التحدّث معها مباشرة :
قلت :
" أنا أتحدّث نيابة عنها "
قال :
" بل سأتحدّث إليها هي ، فهي صاحبة الشأن "
قلت :
" و أنا المسؤول عنها الآن "
قال بعصبية :
" مسؤول عنها في حال غيابي لكنني موجود و أنا زوجها ... فلماذا تخبرك أنت و لم تخبرني ؟؟ "
قلت :
" كيف ستخبرك بشيء كهذا !؟ إنها مرعوبة من الفكرة فهي تدرك أن الأوان قد فات للتراجع ... و الزفاف بعد أيام ... "
" و ما الذي جعلها تغير رأيها هكذا فجأة ؟؟؟ إننا كنا معا يوم العيد و لم تأت بذكر شيء عن هذا مطلقا "
" بل كان الموضوع يشغلها منذ فترة ... و أنتم من ضغط عليها ... لكن الفتاة بحالة سيئة تزداد يوما بعد يوم بسبب اقتراب الموعد ... ألم تلاحظ ذلك ؟؟
قال سامر :
" تبا "
و سار بانفعال نحو المخل يريد الذهاب لإحضارها ...
" انتظر يا سامر "
لم يكن يصغي إلي ، و لكنه و بمجرد أن فتح الباب وقف متسمرا في مكانه ...
و ظل ممسكا بالباب المفتوح و ينظر إلى الخارج ...
ثوان ٍ و إذا بي أرى رغد تدخل المنزل ، يتبعها ابن خالتها حسام !
أول ما نظرت ، نظرت إلي ... تود استنباط مكنون ما حصل ... ثم نظرت إلى سامر و من التعبيرات الكاسية لوجهه المكفهر أدركت أنني تحدّثت معه ...
حسام كان أول من تحدّث إذ ألقى التحية ... فرددناها ، و دعوته للدخول ...
قال :
" أوصلت ُ ابنة خالتي و أردت ُ أن القي التحية ... "
رحبت به ، و دعوته للدخول إلى غرفة الضيافة ، و حدّثت رغد قائلا :
" اذهبي إلى غرفتك "
سامر قال :
" انتظري رغد "
فقلت مقاطعا :
" فيما بعد ، رغد اذهبي إلى غرفتك "
دخلت مع الضيف إلى غرفة الضيوف .
قال حسام ، و هو يلحظ شحنات غريبة في الجو :
" أهناك شيء ؟؟ "
قلت :
" كلا ! "
ثم فتحت موضوعا للحديث ...
بالي كان مشغولا هناك مع رغد ... دقائق و استأذنت الضيف و ذهبت أبحث عنها ...
وجدتها و سامر في الردهة ، و هي مطأطئة الرأس و تبكي ، فيما سامر يتحدث بعصبية ، بل بصراخ ...
قلت :
" كفى سامر ، لنؤجل ذلك قليلا "
" لا تتدخل أنت ! دعنا نناقش أمرنا وحدنا "
نظرت إلى رغد فرأيت الاستنجاد و الخوف يملأان عينيها ...
سامر كان منفعلا جدا ... قال :
" و الآن يا رغد أخبريني ما الذي جعلك تغيرين رأيك بعدما رتبنا كل شيء ؟؟ هل أنا أجبرتك على هذا ؟؟ ألم أترك تحديد الموعد لك ؟؟ ألستِ من قرر الزواج مع دانة في النهاية ؟؟ "
رغد لم تتكلم ، بل انحنت برأسها على ذراعها و استرسلت في البكاء ...
سامر قال :
" سيتم كل شيء كما خططنا له تماما "
رفعت رغد رأسها و تنقلت ببصرها بيننا و حاولت النطق :
" لكن ... "
قاطعها سامر صارخا :
" كما خططنا يا رغد ... فلا مجال للتراجع الآن "
قلت ُ بعصبية و غضب :
" سامر كفى ... كيف تجرؤ على الصراخ عليها ؟؟ "
زمجر سامر بغيظ :
" وليد لو سمحت لا تتدخل أنت "
قلت :
" بل سأتدخّل ... لا أسمح لأحد بمخاطبة رغد بهذا الشكل "
قال :
" و من ينتظر الإذن منك ؟ من تظن نفسك ؟ انسحب رجاء ً "
لكني بقيت واقفا في مكاني ...
سامر تقدم من رغد و أمسك بذراعها يحثها على السير قاصدا الذهاب إلى غرفتها ...
رغد حاولت التملص ، إلا أن سامر أطبق عليها بقوة قائلا :
" تعالي إلى الداخل "
قلت بانفعال :
" أتركها يا سامر "
نظر إلي بانزعاج و سار معها خطوتين نحو الغرفة ...
قلت :
" اتركها يا سامر قبل أن أفقد أعصابي "
زمجر بصوت عال :
"قلت ُ انصرف أنت "
و في هذه اللحظة ... فقدت بالفعل السيطرة على أعصابي ، و التي كنت كابحا إياها منذ زمن ...
اندفعت نحو سامر بلا تفكير و أمسكت بذراعه و سحبته بعنف حتى تحررت رغد من قبضة يده ، و قلت :
" قلت دعها و شأنها أيها الجبان "
و سددت إلى بطنه لكمة قوية من قبضي جعلته يترنح ... و يهوي ... و يتلوى ...
انقضضت عليه و هو على الأرض و أمسكت ُ بكتفيه و جعلت أهزهما بعنف و عصبية و أقول :
" حين تقول أنها لا تريد الزواج الآن فهذا يعني أنها لن تتزوج الآن ... أفهمت ؟؟ ... "
نهضت ، و قلت لرغد :
" اذهبي إلى غرفتك "
رغد نظرت إلى سامر ... فقلت لها :
" هيا ... "
في نفس اللحظة ، حضر حسام و الذي على ما يبدو أنه سمع شجارنا فأقبل متعجبا ...
" ماذا يحدث ؟؟ "
رغد حين رأت حسام أقبلت نحوه و هو تقول :
" أعدني إلى خالتي ... "
نهض سامر ... و نادى :
" رغد "
رغد و هي مذعورة و تبكي قالت لحسام :
" أعدني إلى خالتي ... لا أريد العيش هنا "
سامر الآن يسير نحو رغد ، و حسام ينظر إليها و يسأل :
" ماذا حدث رغد ؟؟ "
سامر قال بحدة :
" الأمر لا يعنيك يا هذا "
حسام قال بانفعال :
" إذن فهي حقيقة ... أنتم من تجبرونها على هذا الزواج ... "
سامر وقف مصعوقا يحدق برغد ... و أنا مصعوق أحدّق بحسام ...
سامر حينها غير اتجاهه و دخل غرفته و صفع الباب بقوة
بقينا أنا و حسام ...
قال :
" ماذا حصل ؟؟ "
لم أجبه ... لذا قال :
" أنا استأذن ... "
و هم بالمغادرة ...
استوقفته و سألته :
" حسام ... لم استنتجت أن هناك من يجبر رغد على الزواج ؟؟ "
قال :
" أنا لم أستنتج ، أنا أعرف ذلك "
دهشت لقوله ، فسألته :
" و من أخبرك ؟؟ "
تردد قليلا ، ثم قال :
" شقيقتي "
بعدما غادر ، صبرت قليلا ثم ذهبت إلى رغد ...
كانت غارقة في الدموع ... قالت :
" أ رأيت ؟؟ لقد قضي الأمر ... لن تستطيع شيئا "
قلت :
" لماذا لم تخبريني بذلك قبل الآن ؟؟ "
رغد نظرت إلي بألم و قالت :
" ما الفرق ؟؟ النتيجة واحدة ... إنه نصيبي "
قلت بإصرار :
" لا أحد سيستطيع إرغامك على ما لا تريدين ... و أنا على قيد الحياة ... و بمجرد أن يعود والداي ... هذا الزواج سيلغى تماما "
الحلقة الثالثة و العشرون
********
~ لأحطمنك ~
خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج .
نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل .
عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحييه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ...
لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت ُ فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور .
حين عدت ُ إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ...
قلت :
" خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ "
قالت :
" رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة "
صمت ، و لم أعقّب .
قالت :
" ألن نفعل شيئا ؟؟ "
قلت :
" دعيها هي تفعل ما تريد "
تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت :
" تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ "
" ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد "
" لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان "
شعرت بالضيق ، قلت :
" هل تحدّثت ِ معه ؟ "
" لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... "
انزعجت من الفكرة ، قلت :
" أين ؟ "
" في غرفتها "
تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك .
عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي .
كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية .
لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة :
" سامر "
ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي .
كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة .
" نعم ؟ "
نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبلل بالدموع .
قلت :
" أرغب في التحدث معك "
" فيما بعد يا وليد "
ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت :
" الآن يا سامر "
قال بعصبية :
" ألا ترى أنني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ "
و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال .
قلت ُ و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا :
" حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق "
و انصرفت .
بقيت ُ جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى .
بعد قرابة الساعة ، سمعت ُ الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال :
" سوينا الأمور "
قلت ُ بذهول و خوف :
" ماذا تعني ؟ "
قال :
" سنتم الزواج كما خططنا له "
أدق الش***ات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة .
قلت :
" و رغد ؟؟ "
قال :
" أقنعتها "
قلت :
" أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ "
قال بعصبية :
" اذهب و اسألها لتتأكد بنفسك "
سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت :
" أنا وليد "
لم أسمع جوابا . قلت :
" أ أدخل ؟ "
" نعم "
سامر كان يقف خلفي .
فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها .
قلت :
" صغيرتي "
ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت ُ أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تتردد في النظر نحوي . قلت :
" هل كل شيء على ما يرام ؟ "
نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت :
" نعم "
لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت :
" و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ "
قالت :
" نقيمه "
صمت برهة ثم قلت :
" أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت ِ لا ما يريده سامر و الجميع "
رغد نظرت نحو سامر ثم قالت :
" نعم . واثقة "
قلت :
" إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ "
لم تجب . قلت :
" هل يجبرك سامر على شيء ؟ "
سامر قال بعصبية :
" و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي "
التفت إليه و قلت :
" ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية "
قال :
" بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا "
هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال :
" ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد "
و التفت إلى رغد و قلت :
" اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت ِ . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين الزواج الآن أم أنك مضطرة إليه ؟؟ "
رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً .
ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت :
" لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق "
سامر صاح بعصبية :
" وليد لا شأن لك بهذا "
" لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا "
" من قال أننا نرغمها ؟؟ "
و التفت نحو رغد و قال بعصبية :
" هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه "
رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت :
" دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي "
قلت :
" أ رأيت ؟ "
سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول :
" واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك ِ أحد "
رغد قالت بعصبية :
" بل أجبرتموني "
حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر :
" من أجبرك ؟ "
قالت :
" كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخططون أنتم جميعا .. كلكم "
أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ...
قال :
" إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ "
قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر :
" لا ... لا ... لا "
كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سددت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ...
ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي :
" آي "
و وضعت كفها على خدها المتألم ...
أنا .. أرى صغيرتي .. مدللتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟
" سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ "
و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت ُ قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضضت عليه ، و ووجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ...
تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ...
الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة و حتى الآن ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ...
ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين
صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ...
جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصبب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ...
و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟
لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ...
يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ...
لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ...
قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة :
" ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ "
شددت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ...
قلت :
" أقتله ... "
و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أ**ر جمجمته بالصخرة ...
حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأنني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ...
لكن عيني ّ وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول
اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ...
مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت ْ بالجدار ...
و لمّا صرت ُ أمامها مباشرة قلت :
" زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني "
خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ...
بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام .
ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ...
خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قالت له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور .
سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، إلا أن خالتي قالت :
" لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم "
ثم نظرت إلي ّ و قالت :
" سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج "
سامر اعترض و كذلك دانة ، إلا أنني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك .
حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك ..
قال :
" إلى أين ؟ "
خالتي تولت الإجابة :
" سآخذها معي لبعض الوقت "
لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ...
في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني .
" كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... "
" يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها "
قلت :
" لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلين كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ "
" ابقي معنا هنا "
" مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكنني العيش في غير بيته "
" ستعيشين في بيت زوجك ! "
" أي زوج هذا ؟؟ "
" الذي تحبين ! "
قلت ُ بألم و يأس :
" و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا ببساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ "
" إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ "
" لأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... "
و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني .
ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟
و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟
أهذا هو الرجل الذي أحببت ؟
إنني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ...
عندما عدت ُ إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ...
قالت :
" هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ "
كنت أريد الهروب منها إلا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة :
" رغد اخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك "
قلت بعصبية :
" حلّي عنّي ! اتركوني و شأني "
" لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستتزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له "
قلت :
" و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ "
نظرت إلي دانة بدهشة و قالت :
" ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ "
التزمت الصمت ، قالت :
" لا تحبين أخي ؟؟ "
قلت بانفعال :
" بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ "
دانة بدت مذهولة و قالت بتردد :
" رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ "
فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في رأسها ...
صمتت برهة ثم قالت :
" لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا "
لم استطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشتت ، أما هي فقالت :
" سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين "
و تركتني و انصرفت .
لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... إلا أنني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل .
سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ...
سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أنني لا أستطيع مواجهته .. إلا أنني لا أستطيع أيضا تركه هكذا ..
تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب :
" لماذا يا رغد ؟ "
لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ...
اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال :
" أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ "
هززت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل ..
قال :
" إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ "
فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف :
" أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني "
أغمضت عيني إشارة إلى أنني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها ..
و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ... فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك .
لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني ..
تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشرر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه ..
شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال :
" قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ "
ثم سحبه و دفع به نحو الجدار ..
سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه ..
وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة :
" لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك "
قال سامر :
" نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين "
و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكنني نعته به ..
صرخت :
" توقفا "
إلا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ...
أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت :
" أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا "
دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي ..
حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني إلا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى ..
يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة ..
استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي
" توقفا .. يكفي "
إلا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ...
قلت :
" أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. "
إلا أن ذلك لم يزد الحرب إلا وطيسا ..
دانة التفتت نحوي و صرخت بوجهي :
" هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. "
و دفعت بي نحو الخارج عنوة ..
ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي ..
.....................
لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل و أرسلته إلى العالم الآخر ..
لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم ..
إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا ..
نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا
لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى ..
إنني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير ..
و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ...
كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم ..
رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها ..
سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ
" ماذا ستفعل يا مجنون ؟ "
قلت :
" سأحطّم جمجمتك .. "
قال بذعر :
" وليد ... ستقتلني ؟ "
دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ...
تركت ُ العلبة تسقط من يدي ...
و قلت ُ مهددا أخي :
" سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. "
و ألصقت ُ رأسي برأسه و قلت :
" أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من صغيرتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ "
و سددت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت ..
ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى
وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ...
قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد :
" وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ "
قلت مزمجرا :
" نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ "
و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ...
ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ...
لحظتها فقط أدركت أنني خرجت من طوري .. و أنني لم أكن في وعيي و رشدي .. و أنني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني ..
قلت :
" رغد "
سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل ..
وقفت ُ متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة ..
سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكنني في ساعة الوحشية تلك :
" صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف "
لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل ..
قلت بألم :
" آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك "
رغد تكلمت بارتجاف قائلة :
" دعني وحدي "
وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ...
قلت :
" سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفينني "
قالت :
" أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي "
آلمني طلبها هذا فقلت بان**ار :
" كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكنني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا "
و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ...
عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل إلا أن سيارة سامر لم تكن موجودة .
حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ...
" أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا "
تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد .
لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت :
" أين ابنة عمك ؟ "
لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا :
" أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه "
انزعجت من ذلك ، و قلت :
" وحده ؟ "
قالت دانة بحدّه :
" نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته .. ماذا بعد ؟ "
قلت :
" لمَ لم تنتظرني ؟ "
قالت دانة بعصبية :
" و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر "
قلت بغضب :
" دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ "
قالت بنفور :
" و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ "
ثم أضافت :
" ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها "
قلت :
" إلام تشيرين ؟؟ "
قالت بنفاذ صبر :
" ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن "
فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة :
" من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ "
دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة :
" اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب "
خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج .
نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل .
عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحييه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ...
لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور .
حين عدت إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ...
قلت :
" خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ "
قالت :
" رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة "
صمت ، و لم أعقّب .
قالت :
" ألن نفعل شيئا ؟؟ "
قلت :
" دعها هي تفعل ما تريد "
تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت :
" تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ "
" ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد "
" لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان "
شعرت بالضيق ، قلت :
" هل تحدّثت ِ معه ؟ "
" لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... "
انزعجت من الفكرة ، قلت :
" أين ؟ "
" في غرفتها "
تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك .
عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي .
كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية .
لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة :
" سامر "
ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي .
كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة .
" نعم ؟ "
نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبلل بالدموع .
قلت :
" أرغب في التحدث معك "
" فيما بعد يا وليد "
ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت :
" الآن يا سامر "
قال بعصبية :
" ألا ترى أنني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ "
و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال .
قلت و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا :
" حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق "
و انصرفت .
بقيت جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى .
بعد قرابة الساعة ، سمعت الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال :
" سوينا الأمور "
قلت بذهول و خوف :
" ماذا تعني ؟ "
قال :
" سنتم الزواج كما خططنا له "
أدق الش***ات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة .
قلت :
" و رغد ؟؟ "
قال :
" أقنعتها "
قلت :
" أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ "
قال بعصبية :
" اذهب و اسألها لتتأكد بنفسك "
سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت :
" أنا وليد "
لم أسمع جوابا . قلت :
" أ أدخل ؟ "
" نعم "
سامر كان يقف خلفي .
فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها .
قلت :
" صغيرتي "
ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تتردد في النظر نحوي . قلت :
" هل كل شيء على ما يرام ؟ "
نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت :
" نعم "
لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت :
" و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ "
قالت :
" نقيمه "
صمت برهة ثم قلت :
" أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت لا ما يريده سامر و الجميع "
رغد نظرت نحو سامر ثم قالت :
" نعم . واثقة "
قلت :
" إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ "
لم تجب . قلت :
" هل يجبرك سامر على شيء ؟ "
سامر قال بعصبية :
" و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي "
التفت إليه و قلت :
" ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية "
قال :
" بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا "
هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال :
" ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد "
و التفت إلى رغد و قلت :
" اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين ذلك أم أنك مضطرة إليه ؟؟ "
رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً .
ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت :
" لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق "
سامر صاح بعصبية :
" وليد لا شأن لك بهذا "
" لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا "
" ما قال أننا نرغمها ؟؟ "
و التف نحو رغد و قال بعصبية :
" هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه "
رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت :
" دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي "
قلت :
" أ رأيت ؟ "
سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول :
" واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك أحد "
رغد قالت بعصبية :
" بل أجبرتموني "
حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر :
" من أجبرك ؟ "
قالت :
" كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخططون أنتم جميعا .. كلكم "
أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ...
قال :
" إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ "
قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر :
" لا ... لا ... لا "
كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سددت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ...
ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي :
" آي "
و وضعت كفها على خدها المتألم ...
أنا .. أرى صغيرتي .. مدللتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟
" سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ "
و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضضت عليه ، و ووجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ...
تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ...
الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ...
ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين
صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ...
جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصبب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ...
و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟
لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ...
يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ...
لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ...
قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة :
" ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ "
شددت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ...
قلت :
" أقتله ... "
و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أ**ر جمجمته بالصخرة ...
حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأنني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ...
لكن عيني وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول
اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ...
مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت بالجدار ...
و لمّا صرت أمامها مباشرة قلت :
" زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني "
خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ...
بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام .
ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ...
خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قات له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور .
سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، ألا أن خالتي قالت :
" لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم "
ثم نظرت إلى و قالت :
" سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج "
سامر اعترض و كذلك دانة ، ألا أنني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك .
حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك ..
قال :
" إلى أين ؟ "
خالتي تولت الإجابة :
" سآخذها معي لبعض الوقت "
لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ...
في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني .
" كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... "
" يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها "
قلت :
" لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلين كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ "
" ابقي معنا هنا "
" مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكنني العيش في غير بيته "
" ستعيشين في بيت زوجك ! "
" أي زوج هذا ؟؟ "
" الذي تحبين ! "
قلت بألم و يأس :
" و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا ببساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ "
" إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ "
" لأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... "
و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني .
ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟
و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟
أهذا هو الرجل الذي أحببت ؟
إنني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ...
عندما عدت إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ...
قالت :
" هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ "
كنت أريد الهروب منها ألا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة :
" رغد اخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك "
قلت بعصبية :
" حلّي عنّي ! اتركوني و شأني "
" لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستتزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له "
قلت :
" و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ "
نظرت إلي دانة بدهشة و قالت :
" ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ "
التزمت الصمت ، قالت :
" لا تحبين أخي ؟؟ "
قلت بانفعال :
" بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ "
دانة بدت مذهولة و قالت بتردد :
" رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ "
فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في ر أسها ...
صمتت برهة ثم قالت :
" لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا "
لم استطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشتت ، أما هي فقالت :
" سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين "
و تركتني و انصرفت .
لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... ألا أنني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل .
سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ...
سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أنني لا أستطيع مواجهته .. ألا أنني لا أستطيع أيضا تركه هكذا ..
تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب :
" لماذا يا رغد ؟ "
لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ...
اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال :
" أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ "
هززت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل ..
قال :
" إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ "
فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف :
" أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني "
أغمضت عيني إشارة إلى أنني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها ..
قال :
" لا تفعلي هذا بي يا رغد .. تعلمين كم أحبك .. "
و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ... فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك .
لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني ..
تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشرر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه ..
شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال :
" قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ "
ثم سحبه و دفع به نحو الجدار ..
سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه ..
وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة :
" لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك "
قال سامر :
" نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين "
و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكنني نعته به ..
صرخت :
" توقفا "
ألا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ...
أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت :
" أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا "
دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي ..
حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني ألا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى ..
يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة ..
استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي
" توقفا .. يكفي "
ألا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ...
قلت :
" أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. "
ألا أن ذلك لم يزد الأمرإلا وطيسا ..
دانة التفتت نحوي و صرخت بوجهي :
" هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. "
و دفعت بي نحو الخارج عنوة ..
ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي ..
لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل و أرسلته إلى العالم الآخر ..
لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم ..
إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا ..
نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا
لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى ..
إنني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير ..
و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ...
كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم ..
رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها ..
سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ
" ماذا ستفعل يا مجنون ؟ "
قلت :
" سأحطّم جمجمتك .. "
قال بذعر :
" وليد ... ستقتلني ؟ "
دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ...
تركت العلبة تسقط من يدي ...
و قلت مهددا أخي :
" سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. "
و ألصقت رأسي برأسه و قلت :
" أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من فتاتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ "
و سددت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت ..
ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى
وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ...
قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد :
" وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ "
قلت مزمجرا :
" نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ "
و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ...
ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ...
لحظتها فقط أدركت أنني خرجت من طوري .. و أنني لم أكن في وعيي و رشدي .. و أنني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني ..
قلت :
" رغد "
سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل ..
وقفت متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة ..
سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكنني في ساعة الوحشية تلك :
" صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف "
لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل ..
قلت بألم :
" آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك "
رغد تكلمت بارتجاف قائلة :
" دعني وحدي "
وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ...
قلت :
" سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفينني "
قالت :
" أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي "
آلمني طلبها هذا فقلت بان**ار :
" كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكنني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا "
و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ...
عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل ألا أن سيارة سامر لم تكن موجودة .
حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ...
" أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا "
تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد .
لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت :
" أين ابنة عمك ؟ "
لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا :
" أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه "
انزعجت من ذلك ، و قلت :
" وحده ؟ "
قالت دانة بحدّه :
" نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته خالتها. ماذا بعد ؟ "
قلت :
" لمَ لم تنتظرني ؟ "
قالت دانة بعصبية :
" و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر "
قلت بغضب :
" دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ "
قالت بنفور :
" و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ "
ثم أضافت :
" ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها "
قلت :
" إلام تشيرين ؟؟ "
قالت بنفاذ صبر :
" ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن "
فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة :
" من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ "
دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة :
" اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب " الليلة الحمراء ~
الحلقة الرابعة و العشرون
* * * * * * * * *
كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.
لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..
في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.
حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، ألا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .
بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...
و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد !
أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...
و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...
الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه..وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...
بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت. كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.
" أما زلت مستيقظة ؟ "
سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..
قلت:
" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "
" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "
قلت:
" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "
و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، م**ور الخاطر...
قالت نهلة:
" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"
قلت بأسى و اعتراض:
" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "
و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..
" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "
و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. ألا أن واحدة منها تحققت فورا !
طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:
" قريبك الكبير أتى يا رغد "
نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت : " من تعنين سارة ؟؟ "
قالت :
" وليد الطويل ! "
أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:
" ماذا يريد ؟؟ "
سارة قالت وهي مبتهجة:
" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هللا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "
و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة ! يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !
قلت:
" أين هو ؟"
قالت:
" في الخارج ! عند الباب "
نظرت إلى نهلة و قلت:
" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "
و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:
" سأخبره بذلك "
نهلة صرخت:
" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "
و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !
بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:
" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "
ألا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...
ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:
" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "
هممت بالنهوض، فقالت:
" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "
قلت:
" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "
و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !
في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.
كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبنني من النافذة !
حينما صرت أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :
" أ أنت بخير ؟؟ "
إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، ألا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !
هل أنا بخير ؟؟
لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:
" تبدين بحال أفضل.. "
نطقت لا إراديا بصوت خفيف:
" نعم "
قال:
" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "
هنا تحدثت بصوت عال مندفع:
" لا ! "
فوجىء وليد بردي فقال:
" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "
قلت:
" نعم " " إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت دانة وحدها "
" لا ! "
بعد وهلة واصل وليد كلامه:
" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "
" نعم "
" هذه الليلة فقط ؟ "
" لا "
" كل ليلة ؟؟ "
" نعم "
" أتمزحين ؟؟ "
" لا "
" إذن فأنت جادّة ؟؟ "
" نعم "
" و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ "
" لا "
لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض...في تشتت.. لكنه حين قال:
" لا أم نعم ؟؟ "
انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:
" نعم.. أعني بالطبع نعم " قال:
" بالطبع لا "
كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:
" فلنعد إلى البيت يا رغد "
قلت:
" لا "
قال :
" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "
" لا أريد العودة، سأبقى هنا"
" لماذا ؟ "
" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "
يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:
" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ.. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. "
قلت:
" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "
و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:
" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "
و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:
و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟
قلت:
" و زفاف دانة ؟ "
تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.
قال بعدها:
" هيا رغد "
لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..
كرر:
" هيا يا رغد ! "
قلت باعتراض:
" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "
ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:
" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "
" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "
" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "
" لماذا ؟ "
" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "
شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟
" لن آتي "
قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:
" رغد ! "
انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..
عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !
تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، ألا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..
وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت باضطراب و ارتجاف:
" سـ .. أحضر حـ .. قيبتي "
و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، ألا أنه ناداني مجددا:
" رغد "
تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم
التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟
أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:
" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "
لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..
وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:
" رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "
ثم تابع:
" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "
نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :
" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "
ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...
قال بصوت خفيف دافىء:
" اعتني بنفسك.. صغيرتي "
ثم ختم:
" تصبحين على خير "
و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.
بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...
سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:
" إذن ماذا ؟ "
قلت:
" سيأتي غدا... "
و صعدت أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...
قالت:
" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "
أمسكت بيديها و قلت:
" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "
" رغد ! ماذا قال ؟؟ "
" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "
و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...
" رغد.. عزيزتي تماسكي "
" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خاليه منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعله من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "
و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...
و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه..ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..
إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...
ألا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...
كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..
بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..
" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت في السجن ؟؟ "
و تلا السؤال عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..
و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..
" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "
عندما صوّبت نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..
و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...
و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..
و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني..
إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟
ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟
كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟
ما عساها تظن بي الآن ؟؟
أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟
هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..
فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..
ليتكِ لا تعلمين..
يا رغد.. سامحيني..
ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...
ليتك ِ تعلمين...
نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...
فجأة، صحوت من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..
فتحت عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..
و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..
للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟
و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...
قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ
" ما هذا ؟ قنابل ! "
و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..
كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...
اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..
شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...
ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رؤوسنا..
هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أي تطأ قدماه..
و نحن نعبر الردهة.. توقفت فجأة و صرخت:
" رغد ! "
قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:
" رغد.. رغد "
و دون أن أنتظر فتحت الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..
" رغد.. "
كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. ألا أنني فجأة تذكرت أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة
صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:
" تهدّم السقف.. سنموت "
ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:
" رغد "
و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:
" ليست هنا، لنخرج فورا "
و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..
سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..
فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة
و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..
رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم بعضا..
و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..
لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..
كنا في موعد مع الموت...
وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..
شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حفاة الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..
ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رؤوسنا...
" اركبي بسرعة "
دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في ع** اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..
الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..
سلكت أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا.. لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..
كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها
وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...
" رغد... رغد.. لا.. لا.. "
صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:
" رغد.. رغد.. "
كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع..و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..
يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها... يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها جثة..
" رغد.. رغد.. "
صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي ..و أنا أركض نحو النيران..
ما كدت أصل إلى الباب حتى سمعت صوت رغد يناديني..
" وليـــــد "
التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:
" رغد... رغد "
و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..
مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي.. فأفتح ذراعي و أسرع بالتقافها في حضني، و أطبق عليها بقوّة..
" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "
" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "
و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:
" رغد "
و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:
" أنتما حيان.. أنتما حيّان "
جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..
انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..
و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..
توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...
صوت حسام يصرخ:
" إلى أين ؟؟ "
قلت:
" سنغادر المدينة بسرعة "
قال:
" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "
قلت للفتاتين:
" هيا بنا "
صراخ حسام و عائلته:
" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "
لكني مضيت في طريقي..
حسام يصرخ:
" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."
رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة
بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت رغد تدخل بسرعة، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..
لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..
انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان
أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..
و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..
كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و **ور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..
لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي... حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..
" رغد.. "
لم تغير من وضعها ..
التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..
" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "
هتفت بأعلى صوتي:
" يا رب.. يا رب.. يا رب "
هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:
" يا رب.. يا رب.. يا رب "
لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..
أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا..
كم من الوقت مضى.. لا أعرف كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف .. ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟ لا أعرف أنجونا من الموت ؟ أيضا لا أعرف...
الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...
" رغد.. دانة.. "
لم تجب أي منهما...
" رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ "
و أيضا لم تردا..
هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..
" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "
ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري..
" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "
نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..
لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. ألا أنها عجزت عن ذلك..
نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:
" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "
دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..
ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:
" أين نحن ؟؟ "
قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:
" الله أعلم "
قالت:
" أين نذهب ؟؟ "
قلت:
" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "
نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:
" هل سننجو ؟ "
أنى لي أن أتنبّأ ؟؟
الله الأعلم..
دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:
" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "
رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...
" وليد "
هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..
لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..
ألا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة.. تماسكت و ركزّت على الطريق..
فجأة.. قالت دانة:
" نوّار ! "
ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..
" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "
و نظرت إلي و هي تسأل:
" الهاتف ؟؟ "
و لكن الهاتف لم يكن معي...
إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..
لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر
انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..
خففت السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد..
" اشربي "
إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..
رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..
" دانة.. خذي اشربي "
مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..
كان ساخنا غير مستساغ المذاق ألا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.
ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه..
خففت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين..
بدأ الطابور يتحرك ببطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي..
و أخيرا حان دوري..
فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة
بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي..
" لقد فررت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. "
و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي..
" من معك ؟ "
" شقيقتي و ابنة عمّي "
" ألديك بطاقتيهما ؟ "
" لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط "
الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول.
ركنت السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد:
" وليد "
بخوف و وجل..
إن نسيتم فسأذكركم بأنني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء..
قلت بصوت مضطرب :
" لا تقلقا.. سأرى ما يريدون "
نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي..
الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب..
هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها
عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت:
" يريدون تفتيش السيارة، اهبطا "
لم تتحرك الفتاتان مباشرة، ثم هبطت رغد حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها..
لم تكن دانة ترتدي الحجاب مثل رغد...
نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر..
نزعت قميص بذلة نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى..
أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفتيش.
بعد فراغهما من المهمة سألتهما:
" أيمكننا الذهاب ؟؟ "
قال أحدهما:
" ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر "
ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال :
" ابقوا هناك.."
نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين..
شددت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر..و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا ببعض والناس في شغل عن النظر إلينا..بأنفسهم و ذويهم ..و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة. ~ مشرّدون ~
على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار..
و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال ..
أرى رغد تفرك يديها ببعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها ببعض..
أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش..
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم..
التفت ناحية رغد و سألتها:
" أتشعرين بالبرد؟"
الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها..
أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة..
لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنا لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟
ألقيت نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت:
" دعانا نذهب إلى السيارة "
و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة..
نظروا إلى بتشكك.. و سألني أحدهم عما أريد
" أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد"
" عد من حيث أتيت يا هذا "
" لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان "
الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق.
فقال آخر :
" ابقوا حيث الآخرين"
قلت بإصرار:
" ستموتان بردا! "
ثم أضفت :
" هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتتأكد"
و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت مفاتيحي و مددتها إليه...
الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها.
لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح.
حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة.
عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي .
حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود...
لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل..
أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها..
و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما.. رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم...
أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسلل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره..
" الصلاة "
قلت ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها.
أما رغد فلم تتحرك.
نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال
قلت :
" سأذهب لأصلي "
فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما.
" توخيا الحذر ، دقائق و أعود"
و مددت يدي إلى مقبض الباب ففتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني..
" وليــــد "
التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني
أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول
" إلى أين تذهب ؟ "
قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا :
" سأصلّي مع الناس "
و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين..
رغد هتفت بسرعة :
" لا تذهب "
قلت :
" سأصلي و أعود مباشرة "
" لا تذهب ! لا تتركني وحدي "
قلت مطمئنا :
" دانة معك ، لحظة فقط "
رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول :
" لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك "
لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة.
ما أن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء..
نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر...
صرخ بعض الموجودين :
" قنابل ! "
و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين..
رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت بابي السيارة بسرعة و هتفت
" هيا بنا "
و أمسكت بيدي الفتاتين و جررتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة..
" أركضا.. أركضا بسرعة "
اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل..
نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح..
يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ين**ر ما ين**ر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه ..
كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر...
سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ..
قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا..
فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض..
و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه..
صرخت :
" قومي رغد "
ألا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ :
" قدمي .. قدمي .. "
جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح..
لابد أنها داست عنوة على **رة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم..
أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة..
رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف :
" لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع "
ما أبطأ سرعة انطلاقنا ..
ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة ..
" انهضي رغد بسرعة "
" لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع "
" هيا يا رغد لننج بأنفسنا "
" لا أستطيع ..كلا "
لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء..
انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها..
مضطجعة على السرير.. في غرفة أناس غرباء.. مكان مظلم و بارد.. ألتحف لحافا و بطانية خفيفين.. لا يكادان يدفئان أطرافي كما ينبغي.. أتقلب يمينا و يسارا.. محاولة ضبط جسدي في وضع يريحه و يخفف آلام قدمي الممتدة لكامل الرجل و الظهر أيضا..
و كلما لففت يمنة .. وقع نظري على تلك الكومة من اللحم و الشحم البشري المتمددة على فراش أرضي.. و المدثرة بلحاف و بطانية شبيهين باللذين يغطياني، يخفيان الرأس و لا يكادان يغطيان القدمين اللتين تبرزان من تحتهما.. بحجميهما الكبيرين و شكليهما الأشبه بالسفينة !
مسكين وليد !
لابد أن عدد الخلايا الحسية في قدمه هو أكثر بكثير من قدمي أنا.. و لابد أنه تألم كثيرا و هو يركض و يمشي حافيا عليها !
أوه و لكن لم علي التفكير بقدم وليد في ساعة كهذه و حال كهذه ؟؟
أم أن الآلام التي أشعر بها في قدمي أنا جعلتني مهووسة بالأقدام؟؟
أكثر شيء أراحني ، و جعلني أستلقي بطمأنينة على هذا السرير هو تحدّثي إلى والدي ّ و اطمئناني عليهما ، و كذلك على سامر و خالتي و عائلتها..
الحمد لله أنهم جميعا بخير ...
و رغم التعب الذي كنت أعانيه، لم أنم مباشرة مثلما نام وليد و دانة على فراشيهما الأرضيين.. لقد كنت أشعر بالبرد... رغم أن جسدي متعرق..
جلست.. و أخذت أنظر نحوهما..
كانا مستغرقين في نوم عميق .. لا تصدر عن أي منهما أي حركة...
نهضت عن سريري و توجهت نحو الخزانة الصغيرة الموجودة في الغرفة، و أنا أعرج .. بحثا عن بطانية أخرى...
فتحت الخزانة و ألقيت نظرة على ما بداخلها، لم أجد أي بطانية أو لحاف ..
أثناء إغلاقي لها أصدرت صوتا ... فالتفت مباشرة إلى النائمين أستوثق من عدم استيقاظهم بسبب الصوت.. دانة لم تتحرك البتة ، أما كومة الشحم و اللحم البشرية تلك فقد تحركت .. و أُزيحت البطانية قليلا.. فظهر الرأس .. و العينان.. و الأنف المعقوف .. و الشفتان.. و الذقن الملتحي أيضا !
وليد نظر إلي برهة نظرة ساذجة، ربما كان نصف نائم.. ثم بدأ تركيزه يحتد و يشتد .. ثم حملق بي في قلق و استوى جالسا
" ما الأمر ؟ "
سألني ذلك ، فقلت :
" آسفة.. كنت أبحث عن بطانية أو ما شابه"
نظر وليد نحو السرير ليتأكد من وجود بطانية معدة لي ، ثم إلي .. فقلت موضحة :
" إنها خفيفة .. "
قال :
" أتشعرين بالبرد ؟ "
" نعم.. "
ثم رأيته ينهض، و يحمل بطانيته و يضعها فوق بطانيتي...
قال :
" ستدفئين هكذا "
شعرت بالخجل من تصرفه و الحرج .. قلت بسرعة :
" أوه كلا وليد.. "
قال :
" إنني لا أشعر بالبرد على أية حال.. اللحاف هذا يكفيني "
طأطأت رأسي خجلا و أنا أنطق بحروف الشكر ... وليد عاد إلى فراشه الأرضي و غطى جسده كاملا باللحاف !
رجعت أعرج نحو السرير و تدثرت بالبطانيتين مع اللحاف... و استمد جسمي الحرارة ، لا من الأغطية المنشورة فوقي ، بل من المدفئة الملتهبة التي تبعث حرارة و تقدح لهيبا في الغرفة ... مكومة هناك.. على ذلك المفرش الأرضي، ملفوفة باللحاف كالشرنقة !
يا إلهي ما أجمله من شعور !
و لأنه لم يعد باستطاعتي رؤية أية أقدام كلما تلفت ، فإن هوس التفكير بها غاب عنّي .. و سمح لدماغي بالصفاء.. و بالتالي بالاستسلام للنوم...
نومتي لم تكن بالنومة الطبيعية على الإطلاق.. رأيت كوابيس مزعجة جدا و استيقظت عدّة مرات فزعة.. أرى نفسي في العراء.. و الناس تركض... و النار تحيط بنا ..
أسمع صراخ الناس.. و دوي الانفجارات.. و أرى جنودا يركضون نحوي..
أحاول الوقوف لأهرب، لكن قدمي المصابة تعيقني...
أصرخ و أصرخ ... و أرى وليد يركض مع دانة مبتعدين .. فأمد يدي طالبة العون.. و ما من معين..
ثم تقترب النيران مني و تلسعني ألسنتها... فأصرخ بأعلى صوتي.. ثم يظهر سامر لا أعلم من أي مكان.. و وجهه يحترق.. و يقول :
" لماذا فعلت ِ هذا بي ؟؟ "
استيقظ من النوم فزعة مرعوبة ، أتلفت إلى ما حولي ، فأجد نفسي في غرفة صغيرة مظلمة ... مضطجعة على سرير .. و أرى وليد و دانة نائمين على مقربة مني...
أنهض عن سريري و اقترب منهما لأتأكد .. أهما وليد و دانة ؟؟ أأنا في حلم ؟؟ فأرى وجه دانة الغارق في النوم .. و شعرها المبعثر على الوسادة... نعم هي دانة.. و هي حية .. و تتنفس..
ثم التفت ناحية وليد.. المغطى باللحاف كليا ، فلا أجد ما يثبت أنه وليد.. و أنه حي .. و يتنفس !
أبقى أراقبه بتركيز حتى ألحظ حركة طفيفة يصدرها صدره .. فيطمئن قلبي إلى أنه حي .. و يتنفس .. لكن .. هل هذا وليد ؟؟
أمد يدي بحذر و بطء.. و جنون.. نحو طرف اللحاف فأزيحه قليلا عن قدمه..
كبيرة كالسفينة !
لا شيء يدعو للشك !
إنه وليد حتما !
يطمئن قلبي و أعود أدراجي إلى سريري الدافىء... نعم أنا بخير.. نعم لقد نجونا.. نعم كان كابوسا.. نعم أنا متعبة.. و بالتأكيد سأنام ...
في المرة الأخيرة التي نهضت فيها..كانت حالتي سيئة جدا ...
~ ~ ~ ~ ~
كنت غارق في النوم لأبعد الحدود ، بعد العناء الذي مررنا به .. توقعت ألا أنهض قبل مضي 20 ساعة على الأقل !
ألا أنني نهضت على صوت ما ...
فتحت عيني و بقيت لحظة في سكون ، إلى أن أفاقت جميع خلايا الوعي النائمة في دماغي ، ثم بدأت حواسي تعمل بشكل جيد ، و تميز الصوت و معناه ...
كان صوت رغد.. و كانت تناديني ..
التفت ناحية السرير الذي كانت رغد تنام فوقه فرأيتها تجلس على حافته في إعياء شديد ، بالكاد تسند جدعها
كانت عيناها شديدتي الاحمرار .. و وجهها شديد الشحوب .. تعبيراتها تنم عن التألم و الإرهاق
اجتاحني القلق بغتة ، وقفت بسرعة و قلت :
" رغد .. ما بك ؟؟ "
نبست شفتاها عن أنة .. تلتها تنهيدة وجع ... ثم قالت بوهن :
" متعبة.. دوار.. "
ثم رأيت القشعريرة تسري في جسدها ...
اقتربت منها قلقا .. و أبصرت زخات من العرق تبلل وجهها
قلت :
" سلامتك "
قالت :
" أظن أنني محمومة .. أريد مسكنا "
ثم ارتمت على السرير بضعف ...
رغد تبدو مريضة جدا..
قلت :
" أ نذهب إلى الطبيب ؟ "
رغد أنت.. أنين مريض مرهق.
قلت :
" استعدي للذهاب . سأعود في الحال "
و توجهت نحو الباب ، فنادتني بوهن :
" وليد "
التفت إليها فوجدتها عاجزة عن رفع رأسها عن السرير .. قلت :
" سأطلب من العم إعارتنا سيارته "
و قبل خروجي نظرت إلى دانة ، و ناديتها عدة مرات ألا أنها كانت في نوم عميق..
عندما خرجت من الغرفة و سرت باتجاه باب المنزل لمحت العم إلياس على مقربة.. و كان يزيل بعض الأوراق و الأغصان المتساقطة من على الأرض..
إنه الصباح الباكر و هذا الرجل معتاد على النهوض باكرا من أجل العمل ...
اقتربت منه و أنا أقول :
" صباح الخير أيها العم الطيب "
التفت إلي و ابتسم ابتسامة جميلة و رحب بي بكل بشاشة و بشر ...
قال :
" نهضت باكرا ! هل اكتفيت من النوم بهذه السرعة ؟؟ "
" شكرا لك ، أخبريها أننا ذهبنا للمستوصف القريب و سنعود قريبا "
التفتت بدورها إلى رغد و قالت :
" سلامتك "
رغد لم تجب و اكتفت بنظرة كئيبة نحو الآنسة أروى.
قلت أنا :
" شيء آخر يا سيدتي و استميحك عذرا على ثقل ظلّنا... "
" تفضّل دون حرج يا سيد وليد "
نظرت إلى رغد في خجل و قلت :
" عباءة .. إذا أمكن "
الآنسة أروى قالت :
" بالتأكيد "
و أسرعت إلى داخل المنزل ، و عادت تحمل عباءة .. و زوجين من الأحذية المطاطية ، التي يرتدونها عادة أثناء العمل ...
انتبهت حينها فقط إلى أنني و رغد كنا لا نزال حافيين أيضا !
بعدما ارتدينا الأحذية المطاطية تلك ، و ارتدت رغد العباءة ، تقدمنا نحو السيارة فصعدت أنا أولا ثم رغد من بعدي... و قد كادت تتعثر .. إن من شدة التعب و الدوار ، أو من علو عتبة السيارة ، أو من طول العباءة التي ترتديها !
حينما بلغنا المستوصف، دخلته و رغد فيما ذهب العم لقضاء حاجاته على اتفاق بالعودة فور فراغه منها..
هناك، استلقت رغد على سرير الفحص و أقبلت الممرضة لقياس العلامات الحيوية لها، ثم قالت :
" حرارتها مرتفعة جدا! أربعون درجة و نصف !"
و أحضرت كيسا يحوي مجروش الثلج و وضعته على رأس رغد، بينما قامت ممرضة أخرى باستدعاء الطبيب المسؤول.
ثوان و إذا بالطبيب يحضر..
و هو رجل في نحو الثلاثين من العمر.. ما أن أقبل حتى استوت رغد جالسة..
اتخذ الطبيب مجلسه على مقعده الوثير خلف المكتب، و أمسك بالقلم و إحدى الأوراق بين يديه و بدأ يسأل :
" مم تشكو الفتاة ؟ "
توليت أنا شرح حالتها مجملا .. و أخبرته عن الجرح العميق في قدمها.
الآن .. يقف الطبيب و يقبل نحو سرير الفحص و يقول :
" بعد إذنك "
وقفت أنا دون حراك ، بينما حاولت الممرضة إغلاق الستارة حول السرير.. لتحول بيني و بينه.. و بادرت الممرضة الأخرى بفتح الضماد من حول قدم رغد المصابة...
في هذه اللحظة هتفت رغد :
" وليد "
لم أتحرك من مكاني، لا للأمام و لا للخلف.. و الممرضة تنظر إلي منتظره ابتعادي..
قال الطبيب :
" أنت شقيقها ؟ "
قلت :
" تقريبا...، ابن عمّها "
و نظرت إلى رغد فقرأت على وجهها الفزع المهول...
قال الطبيب :
" استلقي يا آنسة "
و الذي فعلته رغد هو أنها همت بالنهوض فجأة...
اقتربت أنا منها فأمسكت بذراعي ...لأساعدها على النهوض...
قلت :
" رغد .. "
رغد هزت رأسها نهيا بإصرار...
قال الطبيب :
" ألا تريدين مني أن أفحصك ؟ "
رغد قفزت من السرير واقفة على قدميها ، ثم صرخت تألما ...
قلت :
" رغد اصعدي .. دعيهم يرون الجرح على الأقل "
لكنها عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر و قالت :
" لا "
التفت إلى الطبيب الواقف جوارنا ينظر باستغراب و قلت :
" إنها خجولة جدا "
ثم أضفت :
" ألا يوجد طبيبة امرأة ؟ "
قال :
" للأسف لا "
ثم تنحى جانبا .. و ابتعد..
تحدّثت إلى رغد الواقفة على قدمها بألم و قلت :
" أرجوك صغيرتي ، لندع الممرضة تعقم الجرح "
و لم تقتنع بسهولة..
بعدما صعدت على السرير ، و هي لا تزال متشبثة بي، و كشفت الممرضة عن الجرح.. تأملته ثم قالت موجهة الحديث إلى الطبيب :
" دكتور.. إنه ملتهب جدا "
الطبيب أقبل من جديد يريد إلقاء نظرة على الجرح فرفضت رغد ذلك و دلّت رجليها أسفلا..
قال الطبيب يحدث الممرضة :
" خرّاج ؟ "
" نعم يا دكتور.. ملوث جدا "
الكلمات أقلقتني.. قلت مخاطبا رغد :
" دعيه يلقي نظرة "
لكنها أصرت على موقفها بل و همّت بالنهوض...
" هيا رغد فنحن جئنا للعلاج .. "
و خاطبت الطبيب :
" أرجوكم طهروه و اعتنوا به كما يجب "
بصعوبة بالغة سمحت رغد للطبيب فقط بإلقاء نظرة عن كثب على الجرح.. و ما أن رآه حتى قال :
" بحاجة إلى تنظيف جراحي "
قلت قلقا :
" تنظيف جراحي ؟؟ "
" نعم ، في غرفة العمليات الصغرى.. و لابد من أدوية قوية لأن الجرح ملتهب للغاية "
الخوف تملكني أنا ربما أكثر من رغد المذعورة بين يدي... رغد .. جرح .. التهاب.. عملية .. أدوية .. ؟؟ ألطف يا رب.. ألطف يا رب..
قلت :
" ماذا علينا فعله ؟؟ "
" ننقلها إلى غرفة العمليات الصغرى الآن ، و تحت المخدر الموضعي يقوم الجراح بتنظيف الجرح و تعقيمه.. "
نظرت إلى رغد .. و الذعر المخيم على وجهها .. و الرفض الصارخ من عينيها.. فقلت :
" رغد "
و لم أتم ، إذ أنها هتفت فجأة مقاطعة :
" لا "
واجهت وقتا عصيبا مع هذه الفتاة حتى وصلنا إلى غرفة العمليات المعنية ، و خرقت القوانين بدخولي رغم عدم السماح بذلك..
أنى لي أن أترك صغيرتي وحدها هكذا !؟ مستحيل
و رغم المخدر الموضعي الذي حقنت به ، ألا أنها تألمت بشدة و صرخت بعنف و هي تستنجد :
" وليد.. وليد .. "
كانت تمسك بي بقوة، تغرس أظافرها في ذراعي.. و كلّما لُمِست قدمها ، صرخت و أو عضت على أسنانها ..
و كلما فعلت ذلك صرخت أنا بهم :
" على مهلكم إنها تتألم .. أي مخدّر هذا ؟؟ "
أنظر إليها و أهدىء و أشجع ، و أنظر إليهم و أصرخ و أعنّف .. و أنظر إلى نفسي فأرى النار تكاد تندلع من أعصابي و تشب في جسدي من صراخ رغد...
كم تمنيت.. لو أن الجرح كان في قدمي أنا.. في قدمي ّ الاثنتين .. في كل جسدي .. يقطعني و يحرقني و يكويني .. و لا أن يصيب خدش واحد حتى أحد أظافر قدمها..
كم كنت قاسيا يوم جعلتها تركض حافية القدمين و عرضتها لكل هذا...
أما كان باستطاعتي حملها طوال المشوار ؟؟ أأعجز عن رفع صغيرتي عن أذى الأرض.. و هي التي تربت متعلقة بعنقي ؟؟
ما ينفعني الندم الآن .. و قد سمحت للآه بالانطلاق من صدر فتاتي .. و للدموع بالانسكاب من محجريها .. و للألم باعتصار قدمها و تعذيبها كل هذا الوقت.. يا رغد.. إنك إن تصرخين مرة تصرخ شرايين قلبي ألف مرّة ... و إن تبكين دمعة يبكي قلبي بحرا من الدم ... و إن تتلوين ألما فإن أحشائي في داخلي تتمزق إربا إربا .. و إن تغرسين أظافرك في بدني فأنا مغروس في حبك بعمق طبقات الأرض كلها...
في نهاية الأمر اضطر الطبيب لحقنها بمخدر منوم... ثوان ٍ و إذا بي أشعر بأظافرها تخرج من جسدي.. و قبضتها تخف الضغط علي .. و عضلاتها ترتخي .. و شيئا فشيئا تسقط يديها على جانبيها و يترنح رأسها للأسفل ...
فزعت، رفعت رأسها و ناديت :
" رغد ؟؟ "
لكنها كانت غائبة عن الوعي..
التفت إلى الطبيب الجرّاح و الممرضات و قلت :
" ماذا حدث لها ؟؟ "
قال إحداهن :
" نامت تحت تأثير المخدّر "
لم أشعر بالطمأنينة ، قلت موجها كلامي إلى الطبيب :
" أهي بخير يا دكتور ؟؟ "
قال :
" نعم ، إنه مجرد مخدّر .. ستنام لساعة أو أكثر...
أسندت رأس صغيرتي إلى الوسادة.. و تأملت وجهها ببقايا من القلق.. كانت هناك دمعتان معلقتان على خديها .. آخر السيل ... و ببساطة ...مددت يدي و مسحتهما ...
بعد ذلك ظللت أراقب الطبيب و من معه و هم يعقمون الجرح ... و حالما فرغوا قال الجرّاح :
" أنصح بنقلها إلى مستشفى حيث يتم إدخالها و إعطائها الجرعات اللازمة من الأدوية الضرورية لفترة من الزمن "
ذهلت و تملكني الهلع ، فقلت :
" لم يا دكتور ؟ ما بها ؟؟ "
قال :
" الجرح ملتهب بشكل سيء .. نحن نظفناه و عقمناه جيدا و حقناها بمضادات السموم و لكنها بحاجة إلى أدوية أخرى لإتمام العلاج "
زاد قلقي
" هل هناك خطر عليها ؟ أخبرني رجاء ؟ "
" الخشية من أن ينتشر الالتهاب أعمق من ذلك . جرح عميق .. قدم حافية .. شارع طويل .. خطورة أكبر "
فيما بعد ، نقلت رغد إلى غرفة للملاحظة.. فإضافة إلى جرحها الملتهب ، هي مصابة بجفاف و انخفاض في سكر الدم ..
كانت غرفة صغيرة حاوية على سريرين تفصل بينهما ستارة قماشية
لم تحس رغد بالدنيا من حولها مذ حقنت بالمخدر.. وضعناها على السرير و استبدلت الممرضة قارورة السائل الوريدي الفارغة بقارورة أخرى أكبر حجما.. ثم انصرف الجميع تاركينها نائمة و أنا جالس على مقعد إلى جوارها...
كانت هادئة جدا.. و غارقة في النوم لأبعد الحدود.. كطفل بريء..
رؤيتها هكذا قلبت في رأسي ذكريات الماضي...
كم و كم من المرات... كنت أتسلل خلسة إلى غرفة طفلتي ألقي عليها نظرة و هي نائمة بسلام... و أحيانا أجلس بقربها .. و أداعب خصلات شعرها الأمس... و في أحيان أخرى.. كنت أطبع قبلة خفيفة على جبينها و أهمس في أذنها :
" أحلاما سعيدة صغيرتي "
لم أحتمل ألم هذه الذكرى ...
انطلقت دموعي رغما عني .. شاقة طريقها النهائي إلى الموت.. لو كان الزمان يعود للوراء تسع سنين فقط.. تسع سنين فقط.. لكنت اقتربت من صغيرتي أكثر.. و أخذتها بين ذراعي .. و ضممتها إلى صدري بقوة .. بقوة.. أواسيها .. أشجعها.. أشعرها بالأمان و الطمأنينة.. و الحنان و الحب.. بالدفء و الحرارة..
آه لو يرجع الزمان للوراء ...
آه لو يرجع ...
و فيما أنا أبكي في نوبة الذكرى الجنونية هذه ، طرق الباب ثم أقبلت إحدى الممرضات تقول :
" معذرة هل اسمك السيد وليد شاكر ؟؟ "
مسحت دموعي بسرعة و هببت واقفا مجيبا :
" نعم "
قالت و هي تنظر إلى بشيء من الاستغراب :
" هناك رجل عجوز يسأل عنك في الخارج "
و تذكرت لحظتها إلياس و اتفاقي معه !
خرجت معها فرأيت العم إلياس يقف عند الممر .. ما أن رآني حتى بادر بسؤالي عن حال قريبتي ..
" الحمد لله.. ستتحسن "
قال :
" هل تحتاج للبقاء هنا ؟ "
" أنا آسف لأنني عطّلت مشاغلك يا عمي ، إنها تتلقى سائلا وريديا الآن.. و قد يطول هذا لساعة أو ربما أكثر ... "
قال :
" لا بأس عليكم . أ هناك ما تود مني فعله يا بني ؟؟ "
" شكرا لك عمّاه ، فعلت الكثير .. أرجوك انه مشاغلك و أنا سأبقى معها لحين تحسنها.. سأستقل سيارة أجرة أو أتصل بكم حين فراغنا "
و على هذا افترقنا . عمدت إلى هاتف وجدته أمامي فاتصلت بمنزل نديم و اطمأننت على دانة، و التي كما أخبرت كانت لا تزال نائمة !
عدت من ثم إلى صغيرتي فوجدتها كما تركتها ، نائمة كالملاك... غير أنها رفعت ذراعها فوق الوسادة ، في وضع اعتقدت أنه يعيق جريان السائل الوريدي إلى عروقها..
لذا اقتربت منها و ببطء و هدوء و حذر شديد حرّكت يدها و مددت ذراعها إلى جنبها ..
في هذه اللحظة فتحت رغد عينها نصف فتحة .. فوقعت في أمري و تسارعت ضربات قلبي فجأة... دافعة الدماء إلى وجهي بعنف و غزارة ! تركت يدها تنزلق من بين أصابعي خجلا ..
رغد قالت بصوت خفيف غير طبيعي :
" وليد.. أنت لم تُضِع الميدالية أليس كذلك ؟؟ "
اضطربت .. و لم استوعب ما قالت ...
قلت :
" ماذا ؟ "
لكن رغد أغمضت عينيها و بدت غارقة في النوم !
" رغد ..؟؟ "
لم تجبني .. ما جعلني استنتج أنها ربما كانت تحلم .. و أنها لم تكن واعية .. و أنها لن تتذكر هذا !
الحمد لله !
ضبطت البطانية لتشمل ذراعها تحتها .. و عدت إلى مقعدي المجاور ..
مرت الدقيقة بعد الأخرى.. شعرت بالإعياء و عاودتني الأوجاع الجسدية التي تجاهلتها منذ نهوضي على صوت رغد هذا الصباح .. و غزاني النعاس... و النوم سلطان على من لا سلطان عليه !
كأنني أحلّق في عالم جميل... أطير فوق السحاب.. في قمة الراحة و الاسترخاء.. لا ألم .. لا ضيق .. لا شيء سوى شعور بالدغدغة في داخلي !
فتحت عيني لأرى الجنة التي أحس بنفسي أنعم فيها.. فرأيت جنة مختلفة لا تتفق و الشعور الجميل الذي أحسه ..
أنام على سرير أبيض الألحفة.. تحيط بي الستائر البيضاء.. و تتدلى قارورة ما من أعلى عمود ما.. موصولة بأنبوب طويل ينتهي طرفه الثاني داخل وريدي !
جلست بسرعة أتلفت من حولي.. إنني في المستشفى راقدة على سرير المرض !
متى وصلت إلى هنا ؟؟ كيف وصلت إلى هنا؟؟
أين وليد ؟؟
أصابني الروع ، دفعت باللحاف بعيدا عني و قفزت من على السرير .. و طأت الأرض مرتكزة على قدمي المصابة ، فشعرت ببعض الألم ..
سحبت ذلك العمود الحديدي ذا العجلات معي و سرت خطوة و أنا حافية ، و فتحت الستارة.. كنت أتوقع رؤية وليد خلفها.. لكنه لم يكن هناك
تزايدت خفقات قلبي و تزاحمت أنفاسي و هي تعبر مجرى هوائي...
توجهت إلى الباب مسرعة ، أعرج بشدة.. و فتحته باندفاع.. و صار مشرعا أمامي كاشفا ما بعده .. ممر .. غرف.. انعطافات.. أناس يمشون إلى اليمين ، و أناس إلى الشمال.. و ممرضة تقف في الجوار.. تنظر إلي.. و تتحدث إلى طبيب ما .. آخرون يقفون على مبعدة.. أناس كثر..كثر.. ألا أن وليد ليس من بينهم..
كدت أنهار..كدت أصرخ..كدت أهتف..لكن الشهقة التي انحشرت داخل صدري حُبست عن الخروج..
الممرضة و الطبيب الآن يقتربان نحوي.. أنا أتراجع.. داخل الغرفة.. يصلان عند الباب و يوشكان على الدخول .. تبتسم الممرضة و تقول :
" هل أنت أفضل حالا الآن ؟؟ "
يسأل الطبيب :
" كيف تشعرين ؟ "
أنا أنظر إليهما بذعر .. يداي ترتعشان.. و رجلاي أيضا.. أفقد توازني و أقع أرضا ... و ينشد الأنبوب الموصل بوريدي خارجا من يدي.. و يترنح في الهواء راشا السائل من حولي ..
الممرضة تنحني مادة يدها إلي..
أنا أصدها و أصرخ :
" ابتعدا عني "
يتبادلان النظرات .. ثم يقولان معا :
" أ أنت بخير ؟ "
أنا أصرخ مستغيثة :
" وليد .. وليد "
يتبادلان النظرات ، ثم تقول الممرضة و هي تشير بيدها نحو الستارة :
" قريبك هناك ! "
التفت نحو ما أشارت إليه ، السرير الثاني في الغرفة و شبه المحجوب بالستارة..
أنظر إليها، ثم أحاول النهوض و جسدي ترتجف..
تحاول هي مساعدتي فأصرخ :
" لا "
أهب واقفة قافزة نحو الستارة .. أمسك بها و أفتحها باندفاع.. فتقع عيناي على وليد نائما فوق السرير...
" وليد ! "
اقتربت منه أكثر و أكثر... و هتفت :
" وليد .. "
وليد لم يفق ، أمسكت بكتفه و هززته و أنا أناديه لأوقظه ...
وليد أحس أخيرا ، و فتح عينيه و نظر إلي...
الذعر كان محفورا على وجهي مما جعل وليد يجلس بسرعة متوترا و يقول باضطراب :
" صغيرتي ماذا جرى ؟ "
بجنون التصقت بذراعه و أنا أرتجف خوفا.. كنت خائفة حد الموت..
" أنا هنا رغد.. معك ! غلبني النعاس فنمت على هذا السرير.. لا تفزعي أرجوك "
قلت مجهشة باكية :
" أنا أخاف من البقاء وحيدة.. متى تدرك ذلك؟ لماذا تبتعد عني ؟ أتريد أن تقتلني ؟ "
وليد جعلني أجلس على السرير .. و وقف هو أمامي يردد عبارات الأسف و التهدئة و الطمأنة ... كل هذا و الطبيب و الممرضة لا يزالان واقفين مندهشين في مكانيهما..
بعدما سكنت روحي من روعها و استرددت طمأنة نفسي .. سألني وليد :
" أتشعرين بتحسن ؟ "
" نعم "
وليد نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل ، و كانت تشير إلى الحادية عشرة و النصف ..
ثم وجه خطابه إلى الطبيب قائلا :
" أيمكننا الانصراف الآن ؟ "
قال الطبيب:
" نعم ، سأكتب للمريضة وصفة أدوية ، ألا أنني أفضل نقلها للمستشفى "
وليد نظر إلي.. ثم إلى الطبيب و قال :
" لا يمكننا ذلك"
" أحضرها لتطهير الجرح يوميا إذن "
ثم غادرنا المكان..
في الواقع ، لم يكن يفصل بين السريرين في تلك الغرفة سوى ستارة مشتركة ، و بضع أقدام ...
عدنا إلى منزل صديق وليد في نفس السيارة التي قدمنا فيها..
العجوز أوصلنا و غادر...
حين دخلنا إلى هناك ، و على نفس المقاعد التي كنا نجلس عليها البارحة رأيت دانة جالسة مع السيدة الصغرى ، بينما الأخرى تستقبلنا و ترحب بعودتنا..
وقفت دانة و الفتاة لدى رؤيتنا..
دانة كانت ترتدي عباءة أشبه بالعباءة التي أجرها حول قدمي ّ !
قالت السيدة الكبرى :
" تفضلا رجاءا "
أقبلنا نحو المقاعد و تبادلنا التحيات، ثم تقدمت دانة مني و هي تقول بقلق :
" أأنت بخير ؟ "
قلت بهدوء :
" نعم "
لقد كان القلق الشديد ظاهرا على وجهها.. و هذا ما أدهشني ، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقلق دانة علي !
تحدثت الفتاة الآن قائلة :
" سلامتك يا رغد "
ألقيت عليها نظرة حاوية لشيء من الاستغراب... فابتسمت هي و قالت :
" اسمك جميل "
تأملتها بعمق.. و حدّثت نفسي ...
( بل أنت الجميلة ! ما أشد جمال هذه الفتاة !)
قلت :
" شكرا لك.. "
قال وليد مؤكدا :
" شكرا لكم جميعا "
قالت السيدة الأخرى :
" لا شكر على واجب أيها الأعزة ، تفضلوا جميعا بالجلوس "
و جلست قرب دانة.. و التي قالت مخاطبة وليد :
" اتصلت بوالدي ّ و بسامر و نوّار قبل قليل ، الجميع بخير.. لن يسمح لأبوي ّ بدخول البلاد لحين من الزمن "
وليد قال بارتياح :
" هذا أفضل، ليبقيا بعيدا آمنين .. "
و كان والداي و جميع المسافرين قد منعوا من دخول البلدة و ألغيت جميع الرحلات القادمة إليها..
أضافت دانة :
" لكن سامر في طريقه إلينا "
توتر وليد و قال :
" مجنون .. أمرته بأن يلزم مكانه لحين استقرار الأمور.. لماذا يعرّض نفسه للخطر الآن ؟؟ "
قالت دانة :
" فليحفظه الله ... يا رب "
حل الصمت علينا برهة ، ثم قالت السيدة الكبرى :
" سيكون كل شيء بخير إن شاء الله "
ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :
" أعدي المائدة الآن بنيتي و استدعي خالك "
وقفت الفتاة و هي تقول :
" في الحال أمي "
و همّت بالذهاب ...
وليد قال :
" اعتقد أن العم إلياس قد ذهب إلى المسجد، فهذا ما قاله و نحن في طريقنا إلى هنا "
قالت السيدة :
" هل تحب أن تنتظره أم .. ؟ "
قال وليد :
" نعم ، في الواقع سأذهب لأصلي أنا أيضا "
قلت بسرعة :
" وليد ؟؟ "
أتم جملته :
" في الغرفة .. "
وقف وليد ، فوقفت معه.. و وقف دانة و السيدة أيضا..
ثم نطق بعبارات الشكر و الاستئذان و هم بالانصراف..
قال الفتاة الجميلة مخاطبة إياي بابتسام :
" لقد وضعت بعض الملابس في الخزانة لأجلك "
و التفتت إلى وليد بنفس الابتسام و قالت :
" خالي أيضا ترك بعضها لك يا سيد وليد "
وليد قال :
" نحن ممتنون لكم .. شكرا آنسة أروى "
ثم التفت إلينا أنا و دانة قائلا :
" أتأتيان ؟ "
دانة تحركت مباشرة و سارت نحو وليد الذي سار بدوره نحو الباب.. أما أنا فبقيت محدّقة في الفتاة الحسناء برهة !
( أروى ) ؟؟
أروى ...
ألم أسمع بهذا الاسم على لسان وليد قبل أيام !؟
بلى سمعته...
إنها الفتاة التي اتصل هاتفيا ليبارك لها يوم العيد !
إذن .. فـ ( أروى ) تلك ليست طفلة كما ظننت.. ! إنها فتاة راشدة تكبرني سنا..
فتاة أقل ما يمكن أن أصفها به هو أنها ... فاتنة الجمال !
جالس على السرير الوحيد في تلك الغرفة الصغيرة، بعدما فرغت من استحمامي و صلاتي ، أمسك بيدي محفظتي و أعد نقودي..
ليس لدي سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتوفير مأوى آخر أو طعام لنا و لفترة لا يعلم بها إلا الله..
أشعر بخجل شديد من نفسي إذ جئت بعائلتي إلى هنا ، و رغم أنها عائلة طيبة كريمة لأبعد الحدود ألا أن وجودنا لا يجب أن يطول..
علي التصرف بشكل من الأشكال...
دانة واقفة أمام المرآة ، ثم تلتفت إلي و تراقبني دون أن اهتم لها ، ثم تسألني بقلق :
" ماذا سنفعل ؟؟ "
أفكر بعمق، و بصمت .. و في عجز عن إيجاد حل مناسب.. فقد احترق بيتنا بما حوى.. و نحن الآن مشردون و حفاة معدمون..
تكرر دانة سؤالها :
" وليد ماذا سنفعل ؟؟ "
ارفع بصري إليها ، و أرفع حاجبي ّ و أقوّس فمي للأسفل.. ماذا سنفعل ؟؟
رغد كانت في دورة المياه..
اقتربت مني دانة و قالت :
" نوّار و عائلته سيغادرون البلدة "
و صمتت... و ظلت تراقبيني قليلا ثم قالت :
" و يريدون أخذي معهم "
تغيرت تعبيرات وجهي و قلت باضطراب :
" ماذا ؟؟ "
قالت بتردد :
" إنه نوّار... يريد أن .. يبعدني عن البلدة و الخطر .. "
قلت :
" و الزفاف ؟؟ "
تنهّدت دانة و قالت :
" الزفاف ؟؟ احترق مع فستانه ! "
ثم أخذت تبكي...
و يحق لها أن تبكي بمرارة.. و هي العروس التي كانت تعد لزفافها المرتقب بعد أيام فقط..
شعرت بقهر و غيظ في داخلي فوقفت و أحطتها بذراعي ّ محاولا مواساتها..
بعد قليل قالت :
" دعنا نسافر نحن أيضا "
" إلى أين ؟ كيف ؟ الرحلات محظورة "
" سيسافرون للمدينة المجاورة بالسيارة ، ثم يطيرون إلى بلد بعيد و آمن.. دعنا ننضم إليهم وليد "
" كيف يا دانة كيف ؟؟ إننا حتى لا نملك جوازات سفر أو بطاقات شخصية ! لا أنت و لا رغد على الأقل "
و هنا سمعنا صوت المفتاح يدار في باب الحمام .. فأسرعت أنا بالخروج من الغرفة لأدع المجال لرغد للتصرف دون حرج ..
في الخارج صادفت الآنسة أروى مقبلة نحو الغرفة ..
قالت :
" مرحبا "
" مرحبا سيدتي "
" لقد أعددنا المائدة .. هللا استدعيت الفتاتين ؟ "
" شكرا لكما.. "
" و خالي ينتظرك أيضا في المجلس "
" لا نعرف كيف نفيكم حق الشكر ؟ "
" لم عليك تكرير ذلك يا سيد وليد ؟؟ بل نحن من يتوجب علينا شكرك.. لقد قدّمت لنا الكثير من المساعدات طوال عدّة أسابيع ! أنت شخص نبيل الخلق و تستحق التكريم "
شعرت بالخجل من كلماتها و كلامها معي.. خفضت بصري حرجا نحو الأرض .. و حرت .. ماذا علي أن أقول ؟؟
هنا فتح باب الغرفة و ظهرت منه رغد ..
رغد وقفت تنظر إلي برهة في صمت ، ثم تنظر إلى الآنسة أروى بوجه جامد
الآنسة أروى ابتسمت و قالت :
" كيف حالك ألان يا رغد ؟؟ "
و لم يبد أن الصغيرة عازمة على الإجابة !
لكنها قالت أخيرا :
" بخير "
قالت أروى :
" المائدة جاهزة... أين أختك ؟ "
قالت رغد :
" دانة أخت وليد.. ابن عمي "
و لم أجد الرد مناسبا للسؤال ! قالت أروى :
" نعم أعرف ! و لكنها كانت تتحدث عنك بوصف أختي ! "
ظهرت دانة الآن من خلف رغد .. فحيتها أروى و كررت دعوتنا إلى المائدة..
ذهبنا إلى المنزل ، أنا و العم إلياس في المجلس ، و النسوة في غرفة المائدة ، و تناولنا وجبة شهية مغذية بعد طول الجوع و العطش ..
بعد ذلك تحدثت و إلياس ساردا ما حصل لنا بشيء من التفصيل.. فأبدى تعاطفه الشديد و رحّب ببقائنا في ضيافته إلى أن نجد حلا آخر.. و أنا وعدته بأن أبدأ العمل في المزرعة منذ اليوم ... و رغم اعتراضه ، ألا أنني أصررت على ذلك و نفذته
كان ذلك بعد الغذاء بثلاث ساعات.. تركت الفتاتين نائمتين في الغرفة ، تعوّضان حرمانهما السابق من النوم ، و خرجت إلى ساحة المزرعة و باشرت العمل...
كانت هناك شتلات شجيرات صغيرة جديدة مطلوب غرسها في الأرض.. و توليت أنا هذه المهمة .. أحفر الأرض ، و أغرس الشجيرات ، و أسوي التراب ...
العم إلياس و كذلك أروى كانا أيضا يعملان من حولي..
كنت أشعر بالتعب و الإعياء فأنا لم أنل قسطي الوافي من النوم و الراحة بعد ، ألا أنني لم أطق تأجيل العمل إلى الغد..
أروى كانت تساعدني .. و تتحدث معي من حين لآخر..
إنها فتاة جريئة بالفعل !
فيما أنا جاثيا على الأرض أغرس إحدى الشجيرات في الأرض و أهيل عليها التراب.. و أروى واقفة قربي و ممسكة بالطرف العلوي لتلك الشجيرة .. سمعتها تقول :
" أهلا رغد ! "
رفعت رأسي إليها فرأيتها تنظر في إتجاه معين ...
التفت إلى ذلك الاتجاه فرأيت رغد واقفة تنظر إلي.. و لم تكن تعبيرات وجهها مريحة... البتة
وقفت ببطء .. و نفضت يدي و ثيابي مما علق بها من التراب .. ثم قلت :
" أهلا صغيرتي .. "
النظرات التي رشقتني بها رغد جعلتني انصهر حرجا .. و أهرب ببصري بعيدا عنها..
كانت مذهولة مصعوقة.. تحدّق بي بدهشة لا تضاهيها دهشة..
آلمتني نظراتها و غرست في صدري ألف خنجر.. لم أجرؤ على إعادة بصري إليها من جديد ...
سألت بدهشة :
" وليد.. ماذا تفعل ؟؟ "
ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل يا رغد؟؟
ألا ترين ؟؟
أزرع الأرض.. ألوث يدي و ملابسي و جسدي بالأتربة و السماد.. و الوحل أيضا..
نعم .. أجثو على الأرض ضئيلا منخفضا وضيع الشأن.. بسيط الحال .. عوضا عن علو السماء و المركز و المنصب ..
احتقرت نفسي لحظتها أيما احتقار..
و تمنيت لو أنني دفنت نفسي عوضا عن الأشجار..
ماذا تظنين يا رغد ؟؟
أنني أصبحت شخصا مرموقا عالي الشأن ؟ هذه هي حقيقتي .. مجرد مزارع بسيط يعمل بجد فقط من أجل وجبة طعام و مأوى ...
" وليد .. ماذا تفعل ؟؟ "
أجبرت عيني على النظر إليها ، فهالني ما رأيت على وجهها ...
و لن أصف لكم كيف تحوّل وجه رغد إلى غابة ذهول مخيفة ...
من منكم جرّب هذا ؟؟ دعوه يصف لكم إذن ما أعجز أنا عن التعبير عنه ...
رغد تراجعت للوراء .. ربما لتبتعد عن صفعة الواقع الذي تكتشفه للمرة الأولى..
سارت إلى الوراء بعرج.. و عيناها المفتوحتان أوسعهما لا تزالان ترميان سهام الذبح نحو جسدي... من أعلاه إلى أسفله...
و فيما هي تسير إلى الوراء بهذا الذهول و أنا ساكن في مكاني ، رأيت العم إلياس يقبل من ناحيتها و يشير إلي بيده مخاطبا الرجل الذي معه :
" هذا هو شقيقك ! "
~ ~ ~ ~ ~ ~
لدى سماعي صوت الرجل العجوز قادم من خلفي ، التفت إلى الوراء بسرعة ، فرأيت سامر يقف أمام عيني ...
شهقت :
" سامر ! "
قال :
" رغد ! "
و أسرع نحوي و جذبني إلى صدره بقوة و عانقني بحرارة شديدة ...
" أوه رغد يا حبيبتي... لا أصدق عيني .. الحمد لله .. الحمد لله .. أنت حية ؟؟ شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب "
و صار يبكي و أنا أبكي معه ..
و أخذ يقبّل يدي ّ و جبيني بلهفة .. لم أعهدها عليه من ذي قبل ..
" لقد نجونا يا سامر ! كدنا نموت لكننا نجونا بأعجوبة ! "
أقول ذلك و أتذكر ما مررنا به ، فأدفن رأسي في صدره و أغلق حصار ذراعي حول جدعه...
بعدما فرغ من نوبة الشوق هذه ، التفت إلى وليد ...
" وليد .. "
أقبل وليد إليه و فتح كل منهما ذراعيه للآخر و تعانقا بحمية ...
سامر بملابسه الأنيقة و هندامه المرتب النظيف ، و وليد بلباسه الملوث و يديه المتسختين بحبيبات الرمال ...
الناظر إليهما يجد فرقا كبيرا ...
و أنا وجدت ذك الفرق أيضا ...
كان لقاء دانة بسامر دراميا ...
دانة تحب سامر أكثر من وليد.. السبب في ذلك أن وليد غاب عنا لسنين.. سنين لا أعرف أين كان فيها و لا ما عمل ؟؟
إذا كانت الحقيقة التي أراها أمام عيني .. هي حقيقة رجل يعمل في فلاحة الأرض !
بعد فترة ، كنا نحن الأربعة في تلك الغرفة...
وليد لم يتحدّث إلي بل لم ينظر إلي مذ رأيته يغرس الشجرة قبل ساعات... و أنا بدوري تحاشيته .. و ركزت اهتمامي على سامر و ما يقوله ..
" سنذهب إلى شقتي ، سأستأجر شقة أكبر حجما تسعنا و والدي ّ جميعا "
كانت هذه فكرته ، و دانة رحبت بها بشدة :
" إذن هيا بنا الآن "
قالت ذلك ، ألا أن وليد قال :
" اصبروا قليلا .. إنه المساء و لا يصلح للسفر.. كما أن المسافة ليست قصيرة و لابد أنك متعب ألآن يا سامر "
قال سامر :
" مطلقا ، رؤيتكم أزالت عني أي أثر للتعب ... "
ثم نظر نحوي و قال :
" ألف حمد لله على نجاتكم أيها الأحبة "
قال وليد مؤكدا :
" كما أن الطريق غير آمن.. و لم يكن يجدر بك الحضور يا سامر و تعريض نفسك للخطر "
قال سامر :
" و هل تعتقد أنه كان باستطاعتي البقاء هكذا ؟؟ "
قال وليد :
" على كل ٍ .. سنبقى هنا الليلة "
قال سامر ، بعدما جال ببصره في أنحاء الغرفة بشيء من الأستهانة و أشار إلى الأرض :
" هنا ؟؟ "
قال وليد :
" معذرة فأنا لم أملك من النقود ما يكفي لاستئجار شقة "
قال سامر بثقة :
" لا تقلق بهذا الشأن.. "
قالت دانة :
" إذن لم لا نعجّل الخروج ؟ هيا سامر دعنا نبحث عن شقة مناسبة "
جميعنا ننظر إلى وليد و الذي يظهر استياء في غير محله !
أليس من الطبيعي أن نغادر هذا المكان شاكرين للعائلة كرم ضيافتهم ؟؟
قال وليد أخيرا :
" كما تشاءون "
و من ثم ّ غادر الغرفة ...
أخذنا نحن الثلاثة نتحدّث عما مررنا به .. و عما نحن مقبلون عليه.. في الحقيقة ، التزمت أنا جانب الصمت و الاستماع معظم الوقت... فتفكيري كان قد خرج مع وليد لحظة خروجه..
رؤيته بالشكل الذي رأيته عليه صدمتني كثيرا ...
وليد .. ذلك العملاق الضخم .. الذي أرفع رأسي عاليا إذا نظرت إليه.. الذي أشعر به سمائي .. و نجمتي.. و شمسي .. و جبلي أيضا.. أراه جاثيا على التراب يحفر الأرض.. و يغرس الشجر.. و يلوث يديه بالطين !؟
وليد ؟؟
لطالما كنت أراه عظيما عاليا.. شيئا معلقا في السماء..
أما أن تغوص يداه في الأرض.. فهذا أشبه بالكابوس الذي مررت به يوم القصف..
فيما نحن كذلك رن هاتف سامر المحمول ، فتحدث إلى الطرف الآخر .. و من حديثه معه استنتجت انه صديق وليد ( سيف )
أراد سامر أخذ الهاتف إلى وليد، فلما غادر الغرفة غادرت من بعده..
كان الظلام قد حل .. و ما أن فتحنا الباب حتى تدفقت أنسام عطرة منعشة قادمة من بين الأشجار و الزهور الفواحة ..
لحظتها فقط التفت إلى جمال المكان الذي كنا فيه ... تماما كجمال أصحابا ... شكلا على الأقل !
في الخارج ، في الساحة الواسعة أمام المنزل ، رأينا أفراد العائلة المضيفة يجلسون جميعا على بساط أرضي ، و وليد معهم ...
الإنارة كانت خفيفة صفراء منبعثة من مصباح المنزل الخارجي..
كان الرجل العجوز يجلس إلى جانبه و يمسك في يده سلة سعفية نصف مكتملة الصنع ، و يظهر أنه يشرح لوليد كيف يصنع مثلها..
و إلى الجانب الآخر من وليد تجلس أروى الحسناء .. تصنع سلة أخرى هي بدورها.. و تلقي بالملاحظات على الاثنين ، أما أم أروى فكانت منشغلة بت**ير بعض الثمار الصلبة ، و استخراج بذورها..
تنحنح سامر فالتفتوا نحونا.. وقف وليد و أقبل إلينا.. مد سامر الهاتف نحوه و قال :
" صديقك الحميم يود الاطمئنان عليك "
" سيف ؟ "
" نعم ! اتصل عدة مرات ... "
أخذ وليد الهاتف و تحدث معه محادثة استمرت عدة دقائق ..
و حالما انتهى و أعاد الهاتف إلي سامر قال الأخير :
" فلنذهب الآن يا وليد ... "
وليد التفت ناحية العائلة و قال :
" سأشكرهم و أودعهم ... "
نحن الثلاثة أقبلنا إلى إليهم فوقفوا... و بدأ وليد يكرر عبارات الشكر و الامتنان ، و هم يعبرون عن سرورهم باستضافتنا بل و يصرون على بقائنا بعد..
قال أروى :
" إذن لن تبقى معنا ؟؟ أ لن تعود إلينا ؟ "
و كان ظاهرا على وجهها الأسف...
وليد قال :
" بلى.. سأعود حالما اطمئن على سير الأمور كما يجب.. "
ثم أضاف :
" أنتم عائلتي و هنا عملي "
أروى ابتسمت بسرور... أما أنا فشعرت بغصة في حلقي ...
قالت :
" مكانك محجوز لك و غرفتك جاهزة فأهلا بك في أي وقت "
شكرها وليد .. ثم استدار نحونا و قال :
" أ ننطلق ؟ "
قال أروى :
" لحظة "
و ذهبت إلى المنزل و عادت تحمل كيسا قدمته إلى وليد و قالت :
" ملابسكم .. نظيفة و مطوية "
فتناول وليد الكيس من يدها و كرر شكرها ..
كل هذا أمام عيني .. و يشعرني بالغضب !
واضح أنها معتادة على وليد و تخاطبه و كأنه أحد أقاربها ، لا رجلا غريبا...
لا يعجبني ذلك أبدا ...
بعد وداع العائلة ، ذهبنا إلى شقة قريبة قضينا فيها ليلتنا تلك ، و من الصباح الباكر غادرنا المدينة متجهين إلى مقر سامر...
طول تلك الفترة و أنا في حالة من الذهول... لم استفق منها بعد..
و وليد لم يكن يكلمني.. بل أنه كان يتحاشاني عن عمد.. و كأن شيئا لم يكن...
استأجر سامر شقة متوسطة الحجم في نفس المبنى الذي كان يقطنه .. شقة جمعتنا نحن الأربعة تحت سقف واحد ..
والداي كانا يتصلان مرة أو مرتين في اليوم بنا ليطمئنا على أحوالنا، و الحظر عن دخول المسافرين الى البلد استمر عدة أسابيع...
شفي الجرح الذي في قدمي شيئا فشيئا.. و قد كان سامر يصطحبني كل يوم إلى المستشفى من أجل تطهيره..
كنت على اتصال مستمر بعائلة خالتي ، و التي بقيت في المدينة تعيش على ما تبقى من حطامها..
في أحد الأيام ، جاءنا نوّار خطيب دانة، يطلب أخذ دانة معه إلى الخارج.. حيث سيستقر هو و عائلته عدة أشهر إلى أن تهدأ الأوضاع ..
نوار كان قد تحدّث بهذا الشأن إلى والدي و الذي يبدو أنه أيد الفكرة من باب إبعاد دانة عن البلدة .. كما أيدها سامر و تحمّست لها دانة كثيرا ، ألا أن وليد كان معارضا
" كيف يا دانة ؟ دون زفاف ؟ دون عرس ؟؟ دون وجود والدي ّ ؟؟ "
" و هل تعتقد أنني سأعيد شراء كل ما احترق من جديد ؟ دعونا نقيم حفلة بسيطة خاصة بنا.. أنا أريد أن أغادر هذه البلدة و التعاسة المخيمة عليها "
" و والداي ؟؟ "
" إنهما يؤيدان الفكرة .. و سوف نذهب إليهما أولا ثم نغادر "
" كلا.. سننتظر حتى يسمح لهما بالعودة ، ثم نقيم حفلة عرس متواضعة.. لن ننقص من قدرك أمام ذلك المغرور "
حينما قال وليد ذلك، اغتاظت دانة و قالت بحدة :
" من هو المغرور ؟ "
لزم وليد الصمت ، فقالت :
" لا أسمح لك بإهانة خطيبي ! أي قدْر هذا الذي تتحدّث عنه ؟؟ أ بعْد حطّتي في القدر باكتشاف حقيقة مخجلة مخزية عنك ، تجرؤ على الحديث عن القدر ! "
نشبت مشاحنة حادة بين الاثنين ، و أنا و سامر نتفرج بصمت..
قال وليد في معرضها :
" لن تفعلي ما يحلو لك .. و أنا المسؤول عنك في غياب والدي شئت أم أبيت "
دانة ردت بحدّة :
" و من قال أنني أنتظر الإذن منك أو أتشرف بمسؤوليتك هذه ؟؟سأسافر مع نوار يعني سأسافر معه.. و أنت عد من حيث أتيت فذلك أنسب لحالك و مثلك "
وليد رفع يده و كاد يصفعها ، ألا أنه توقف في منتصف الطريق.. و كتم غيظه..
لم أتمالك أنا نفسي ، فقلت غاضبة :
" ألا تحترمين شقيقك الأكبر ؟ ! "
قالت :
" اخرسي أنت..إنه شخص لا يستحق الاحترام "
جميعنا ننظر إلى دانة بغضب .. و هي تدور ببصرها حولنا ..
سامر نطق أخيرا و قال غاضبا :
" دانة ! يكفي "
" اجدر بك ألا تخشى على مشاعره ! أنسيت ما فعل بك ؟ "
هتف وليد :
" دانة "
صرخت هي :
" اضربني ! أليس هذا ما يتعلمه المجرمون في السجون ؟؟ "
وليد أمسك بكتفي دانة و هزّها بعنف و هو يصرخ :
" يكفي.. إياك و قول المزيد.. أتفهمين ؟؟ إن نطقت بحرف بعد فسأقطع لسانك .. أنا خارج من حياتك فاهنئي بمن تريدين "
و حررها من بين يده و قال مخاطبا سامر :
" افعلوا ما تشاءون .. فأنا لم يعد يهمني من أمركم شيئا "
ثم التفت إلي ففزعت من نظرته المرعبة ... و زمجر هو :
" و هذه أيضا.. تزوجها بالمرة و خلصوني منكم جميعا.. "
و أسرع خارجا من الشقة ...
مرت الساعات و لم يعد.. و انتصف الليل و لم يعد.. قلقت كثيرا عليه.. خرجت من غرفتي في قلق فإذا بي أرى سامر يجلس في الصالة أيضا ...
" ألم تنم ؟ "
" أشعر بالأرق "
" هل عاد وليد ؟ "
" كلا "
" إلى أين ذهب ؟ "
" لا علم لي ... "
" ربما عاد للمزرعة ! "
قلتها و أنا أضع يدي على صدري خوفا من أن تكون حقيقة ...
سامر نهض واقفا .. و اقترب مني و قال :
" ما رأيك بما قال ؟ "
" ما ذا تعني ؟؟ "
أمسك بيدي و قال :
" بأن .. نتزوج نحن أيضا .. "
هنا احتقنت الدماء في وجهي و اضطربت تعبيراته... رأى سامر الرفض على وجهي و قال :
" أرجوك .. رغد .. "
هويت بنظري أرضا ...
لماذا يعود لفتح الموضوع الآن ؟ لماذا يا سامر لا تعتقني ..
سامر رفع وجهي بيديه كلتيهما و قال بصوت شديد الدفء و الحنان :
" كدت أجن .. لما حصل معك ..لا أريد أن تفترقي عني لحظة واحدة .. أحبك بجنون "
أبعدت وجهي عنه و استدرت و أنا أقول :
" كفى .. أرجوك ... "
و انهمرت دموعي ...
حاصرني سامر .. حاولت الفرار ألا أنه لم يدع لي المجال ..
" لأنني لا أحبك .. لا أحبك يا سامر .. هل ارتحت الآن ؟ "
سامر دار بي حتى رطمني بالباب .. و هتف صارخا :
" .. وليد ؟؟ "
تفجّرت لحظتها و صرخت بأعلى صوتي مطلقة سراح ما حبسته في صدري عنوة :
" نعم أحبه.. أحبه هو .. أحبه هو .. أحبه هو .. هو .. هو "
بعد هذا الانفجار .. و الذي خرج من صدري دون شعور و إدراك .. و وعي ، وعيت على الواقع بصفعتين قويتين تلقيتهما من كف سامر الثائر..
أفقت فجأة فرأيت نفسي أقف مسنودة إلى الباب .. و دموعي تجري كشلال ضخم.. و سامر يقف أمامي كأسد ثائر ... يكاد يفترسني ...
لم أدرك أنني أفصحت عمّا في قلبي إلا بعد حين ...
توقفت أنفاسي .. في حالة من الذهول مما أنا فيه ...
كالجمرة المتقدة كان وجه سامر محمرا متوهجا .. و كانت يداه توشكان على الانقضاض علي ...
قال :
" لقد كنت أحمق إذ لم أعر شكوكي اهتماما يومها ... كم كنت غبيا ... لقد كنت تحبينه كل ذلك الوقت و تستغفلينني ؟ "
لم أستطع النطق بأي كلمة ..
تابع هو :
" نعم .. فأنت ركضت نحوه هو يوم كنا عند الشاطئ.. و تركتني أنا واقفا كالأبله جواره تماما.. "
ثم أطبق علي بيديه و قال :
" لهذا تريدين التخلص مني ؟؟ لن تفعلي هذا بي يا رغد.. لن أسمح لك بهذا أبدا "
و سحبني بعنف .. و سار يجرني إلى غرفتي ، و دفع بي بقوة نحو السرير ... فارتطمت به بآهة ...
زمجر :
" لن أسمح لكما بذلك .. أتفهمين ؟؟ أبدا يا رغد "
و خرج من الغرفة و هو يصفع بالباب ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
حينما وصلت إلى المزرعة.. كان ذلك قبيل أذان الفجر...
دفعت مبلغا كنت أنا الأحوج إليه إلى السائق الذي أوصلني... و أخذت أعد ما تبقى لدي من جديد...
لزمت المسجد لحين ارتفاع الشمس في صدر السماء... و ناجيت الله طويلا .. شاكيا له حالي و باثا إليه همومي و سائلا إياه الرحمة و اللطف ...
ذهبت إلى المزرعة بعد ذلك و استقبلني العم الطيب و ابنة أخته استقبالا حافلا ... و علمت منهما أن السيدة ليندا عادت إلى المستشفى من جديد ، في نوبة جديدة ...
كلما تذكرت أنني كنت السبب في المرض التي اعترى قلب هذه السيدة كرهت نفسي أكثر .. و شعرت بمسؤولية أكبر تجاهها و تجاه المزرعة و من فيها...
قمنا بزيارتها مساء ذلك اليوم.. ففرحت هي بزيارتي و طلبت مني مساعدة أخيها و ابنتها في العناية بالمزرعة ..
عملت بجد و اجتهاد في الأيام التي تلت .. و لم أتصل بأهلي إلا اليوم ..
كان العم و أروى قد ذهبا لزيارة السيدة ليندا ، وأنا بقيت في المنزل وحيدا ... تحدّث سامر إلي و طمأنني على أحوالهم ، و أخبرني أنه و رغد ، كما نوّار و دانة سيحتفلون بزواجهم بعد ليلتين...
أقفلت السماعة ، و حاولت منع رأسي من التفكير في أي شيء...
فبعد اللقاء الحميم الذي جمعهما في المزرعة أول وصوله ، فقدت أي اهتمام يذكر بشأن عرقلة هذا الزواج .. سواء ً كان برضا من رغد أو باضطرار منها..
أنى لها أن تجد الزوج الأنسب ؟؟
و كيف أسمح لنفسي بالتفكير بها .. و ما أنا إلا رجل فقير معدم .. لا يملك مأوى و لا قوتا ؟
و إن عشت ألف سنة بعد ، لن أنسى نظرة الازدراء التي رمتني بها يوم كنا في المزرعة ...
صدقت يا سامر
رغد لا تستحق الزواج من مجرم قاتل .. فقير معدم .. وحيد منبوذ مثلي ..
عاد العم و أروى من المستشفى فرأياني شاردا سارحا تائها في أفكاري ...
كما رأيا الدمعة التي هربت من مقلتي ..
رأيت في عينيهما القلق .. و سألاني عما إذا كان شيء ما قد حصل ، فأجبتهما :
" لا شيء "
الفتاة ذهبت إلى المطبخ أما العجوز فعاد يسألني :
" ما بك يا بني ؟ تبدو في غاية الحزن ؟؟ "
قلت :
" و هل ترى في حالي ما يدعو للسرور أيها العم ؟ إنني في أسوأ حال "
" قل الحمد لله يا ولدي.. "
" الحمد لله "
تنهدت ، ثم قلت بمرارة ...
" إلى متى سيظل حالي هكذا ؟؟ لسوف أبحث عن عمل من جديد .. إنني بحاجة للمال .. لتكوين نفسي و بناء مستقبلي "
" ماذا عن .. العمل معنا ؟؟ "
نظرت إلى الرجل العجوز نظرة امتنان و قلت :
" لكن إلى متى ..؟؟ إنني تائه ! بلا بيت و لا أهل ... "
" و نحن ؟؟ "
" أنتم .. عائلتي حتما و لكن .. "
و صمت ...
العم قال :
" و لكن لا يربطنا نسب أو دم .. "
لم أعلّق ، قال :
" مشكلة سهلة الحل "
نظرت إليه بحيرة ...
ابتسم العجوز و قال :
" إن كنت تريد لها هذا الحل "
قلت :
" عفوا ؟؟ "
العم إلياس امسك بيدي و ظهر الجد على تعبيرات وجهه و قال :
" أزوّجك ابنة أختي ! "
تملّكني الذهول و المفاجأة .. رمقته بنظرة بلهاء غير واعية لحقائق الأمور ..
" ماذا ؟ "
أجاب العم :
" إذا كنت ترى ذلك طبعا ... مثلما نراه نحن .. "
تلك الليلة لم تسمح لي الفكرة هذه بالنوم.. خرجت من غرفتي أحمل علبة سجائري التي اشتريتها مؤخرا... و التي عدت استهلكها بشراهة .. سرت متجولا في المزرعة في تفكير عميق ...
قضيت وقتا في الخارج ، و لما عدت .. لمحت أروى جالسة على عتبات المنزل ...
لما رأتني نهضت واقفة ... و ألقت علي التحية ..
ارتبكت.. و رددت باضطراب ..
قالت و هي تنظر إلى السيجارة في يدي :
" ألم تقلع عن التدخين ؟؟ "
" أأ .. صعب .. "
قالت :
" أنت تضر بصحتك ! لا تستحق هذه التافهة الاهتمام ! "
تنهّدت .. و نظرت إلى السماء ثم قلت :
" لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام ... و لا حتى أنا "
" أنت مخطئ ! "
و ندمت على مقولتي هذه !
و رأيت نظرات الاهتمام في عينيها ...
غضضت بصري و قلت :
" بعد إذنك .. سأعود إلى غرفتي "
و خطوت بضع خطوات مبتعدا ، و أنا أحس بها تراقبني ...
التفت للوراء فوجدتها بالفعل تراقبني ... و تبتسم !
لا أعرف من أين استمددت هذه الجرأة و الجنون لأسألها :
أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل !
العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما !
أي جنون هذا ؟؟
ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض...
نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حور رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم ..
غضضت بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت :
" أنا آسف "
" لم ؟؟ "
قالتها بتعجب ، ف**اني تعجبها تعجبا !
أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام...
و لا تزال تبتسم بخجل !
تشجعت حينها و قلت :
" ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ " قالت دون أن تنظر إلي :
" مثلك .. يعني ماذا ؟؟ "
قلت :
" فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! "
قالت :
" لكنك .. رجل نبيل يا وليد "
ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة !
في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز ..
و ربما هو لاحظ ارتباكي ألا أنه لم يعلّق..
قلت :
" أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ "
قال :
" هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر "
و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم
قلت :
" و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ "
قال :
" زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله "
ثم أضاف :
" لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي "
قلت بسرعة :
" أطال الله في عمرك عمّاه "
قال :
" فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح "
و غمز إلي بنظرة ذات معنى !
احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال :
" أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. "
و نظر نحوي.... يقصدني !
قلت متلعثما :
" أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. "
أتم العم الجملة :
" منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك "
قلت مترددا :
" لكنني .. كما تعرف "
قاطعني :
" لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك "
طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ...
قلت أخيرا :
" لكنني.. خرجت من السجن "
قال :
" نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا "
ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ...
العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي :
" أ نقول على بركة الله ؟؟ "
~ ~ ~ ~ ~ ~
" ماذا عني أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ "
سألت دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد
لم تكن ت***يني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة !
" دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ "
" ماذا تريدين يا رغد ؟ "
" لا أريد البقاء وحدي هنا "
" سامر معك "
قلت باستياء :
" لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا "
الآن التفتت إلي و قالت :
" إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! "
شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا...
خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا..
و يا ليتني لم أفعل ...
بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ...
كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، ألا أنني صددته بجفاء.
" وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.."
غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة..
قال :
" حين يعود والداي سيتم كل شيء "
قلت :
" حين يعود والداي سينتهي كل شيء "
سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف :
" كل هذا من أجل وليد ؟؟ "
ونظرت إليه نظرة تحدّي لم يستطع تجاهلها..
أطبق علي بقسوة و قال :
" و إن تخليت عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ "
" بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي "
" رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ " هتفت :
" لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ "
سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ...
قال :
" ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ "
ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول :
" أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ "
صرخت بفزع :
" ما الذي تقوله ؟؟ "
قال مندفعا :
" ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ "
كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته ..
أتم جملته :
" لقد كان في السجن "
صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، ألا أن سامر هزني و قال بحدة :
" نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما "
صرخت غير مصدقة ..
" كلا .. كلا .. أنت تكذب ! "
قال بحدّة :
" تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش "
دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ...
" دانة "
هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ... قلت :
" وليد .. وليد... "
فزعت دانة ، قالت :
" ما به ؟؟"
قلت :
" كان في السجن ؟؟ "
دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ :
" وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ "
ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة
قال :
" أخبريها فهي لا تصدقني "
دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت :
" أجل... لثمان سنين .. "
صرخت :
" لا ! "
قالت : " بلى ، و بجريمة قتل "
" مستحيل ! "
لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك ..
دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ...
بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ...
حينما وعيت تماما وجدت نفسي ممدة على الأرضة و رأسي في حضن سامر و يدي بين يدي دانة ... و كنت أشعر ببلل الدموع الجارية على وجنتي...
قال سامر :
" أ أنت بخير ؟ "
أغمضت عيني بمرارة و تركت المجال لدموعي بالتدفق كيفما شاءت...
قالت دانة :
" رغد ... "
فتحت عيني و حاولت أن أتكلم، و عجزت إلا عن إصدار أنات متلاحقة... لا معنى لها و لا تفسير..
ساعدني الاثنان على النهوض و التوجه إلى غرفتي حيث استلقيت على سريري.. و جلس الاثنان قربي.. سامر يمسح على رأسي و دانة تشد على يدي...
قالت :
" لا بأس عليك.. كانت صدمة بالنسبة لي أنا أيضا "
تحشرج صوتي في حنجرتي ثم انطلق ناطقا :
" لماذا أخفيتم عني ؟؟ "
دانة نظرت إلى سامر.. كأنها تنقل السؤال إليه..
نظرت إلى سامر فرأيت وجهه متجهما حزينا...
" لماذا ؟ "
سامر حار في أمره .. و بعثر أنظاره فيما حولي ثم قال :
" كنتما صغيرتين .. ثم .. لم نشأ تقليب المواجع بعد خروجه .. "
" لا أصدق .. لا أصدٌق.. لا يمكن.. "
و انفجرت في بكاء أبكى دانة.. و كاد يبكي سامر أيضا..
قلت مخاطبة دانة :
" لماذا فعل ذلك ؟؟ "
و أيضا أحالت السؤال إلى سامر ..
قلت مخاطبة سامر :
" لماذا ؟؟ "
هذه المرّة سامر دقق النظر إلي .. نظرات عميقة غريبة ، ثم قال :
" ألا تعرفين ؟؟ "
" أنا ؟؟ "
سامر قال :
" لا نعرف الحقيقة بالضبط، لكن ... "
" لكن ماذا ؟؟ "
تردد سامر ثم قال :
" إنه يخفي سرا .. "
صمت ثوان ثم قال :
" سر على ما يبدو .. له علاقة بـ ... "
و تراجع عن إتمام جملته..
" بماذا ؟؟ "
سألت ، فظل ينظر إلي بتمعن .. و كأنه يثير إلي !
" بي أنا ؟؟!! "
و لم ينف كلامي ، فسألته دانة باستغراب :
" و ما علاقة رغد بالأمر ؟؟ "
سامر تردد و من ثم قال بنبرة غير الواثق من كلامه :
" لا أدري .. القضية غامضة .. و حزام الزي المدرسي الذي كانت رغد ترتديه ذلك اليوم – وهي نائمة في سيارة وليد - .. وجد للغرابة في مسرح الجريمة قرب القتيل مباشرة ! "
ما إن أتم سامر جملته .. حتى تهدّم في رأسي سد الذكريات فجأة .. و تدفقت شلالات الذكرى المفزعة .. و انتفضت و شهقت ثم هتفت بغتة :
" عمّار !!؟؟ "
الاثنان نظرا إلي بتعجب ..
جلست فجأة و وضعت يدي الاثنتين على صدري فاتحة عيني و فاغرة في ّ بذهول ما بعده ذهول ...
" رغد ؟؟ "
ناداني سامر ، فالتفت إليه .. ثم إلى دانة .. ثم إلى سامر فدانة بشكل تثير الشكوك ..
عاد سامر يقول :
" رغد ..؟؟ "
صرخت :
" لا "
" رغد .. هل رأيت شيئا ؟؟ "
صرخت بفزع :
" لا "
قال :
" أتذكرين شيئا ؟؟ "
" لا .. لا كلا .. "
و جذبت دانة نحوي و وضعت رأسي في حضنها و لففت ذراعي ّ حولها و أنا أصرخ بجنون :
" كلا .. كلا .. وليد.. وليد .. "
حتى غشي علي ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في نفس اليوم ، و الذي عادت فيه السيدة ليندا من المستشفى ، عقدنا قراننا أنا و أروى ..
العائلة كانت سعيدة و مبتهجة ... و قد صنعت أروى كعكتين لذيذتين و عشاء مميزا، احتفالا بالمناسبة..
لم يشاركنا الحفلة الصغيرة سوى سيدة واحدة هي صديقة للسيدة ليندا ، و ابناها اللذين شهدا على العقد..
بالنسبة لي ، كان حدثا غريبا و أشبه بالوهم..نعم الوهم..لقد كنت هناك ، لكنني لم أكن.. و انتظرت أن أصحو من هذا الحلم الغريب.. ألا أنني لم أصح ..
بعد تناولنا العشاء.. أوحت إلينا السيدة ليندا بأن نخرج للتجوّل في المزرعة.. أنا كنت أتتصبب عرقا و في غاية الخجل.. و لا أجرؤ على النظر نحو أروى.. و لا أعرف كيف هي حالتها و تعبيراتها!
خرجنا معا إلى المزرعة، و سرنا صامتين لا يلتفت أحدنا إلى الآخر.. قطعنا شوطا طويلا في السير.. و كان الجو باردا فسمعت صوت كفّي أروى يحتكان ببعضهما.. و هنا التفت و نظرت إليها لأول مرّة مذ فارقتها البارحة ..
قلت بتلعثم :
" أتشعرين بالبرد؟؟ "
أروى ابتسمت و نظرت للأسفل و قالت :
" قليلا "
" أتودين أن .. نعود ؟ "
رفعت نظرها إلي و قالت :
" لا.. "
هربت أنا بنظري إلى الأشجار و أنا أتنحنح و ألمس عنقي بيدي.. و أشعر بالحر !
حقيقة أنا لا أعرف ما أقول و لا كيف أتصرّف !
و لا حتى كيف أفكّر ! و اسمعوا ما قلت :
" هذه الأغصان بحاجة إلى ترتيب ! "
و أنا أشير إلى الشجرة التي كنت أنظر إليها..
أروى قالت :
" نعم "
" سوف أقوم بتنظيمها غدا "
" نعم "
لا أزال أحدق في الشجرة.. كأنني أفتش عن المفردات بين أوراقها !
كيف يجب أن يتصرّف رجل عقد قرانه من فتاة قبل قليل ؟؟
أنا لا أعرف بالضبط، فهي تجربتي الأولى، و لكن بالتأكيد.. ليس التحديق في أغصان الأشجار و أوراقها !
" وليد "
نادتني أروى.. فاقشعر جسدي خجلا ، التفت إليها بحرج .. و أنا أمسح قطيرات العرق المتجمعة على جبيني :
" نعم ؟ "
قال بخجل :
" هل أنت .. سعيد بارتباطنا ؟؟ "
تسارع نبض قلبي.. توترت كثيرا ألا أنني قلت أخيرا :
" نعم، و .. أتمنى أن تكوني أنت سعيدة ! "
ابتسمت هي مومئة إيجابا..
ثم قالت و هي تعبث بأصابعها بارتباك :
" أنا.. معجبة بك "
أنا سكنت تماما عن أي حركة أو كلام.. تماما **يارة نفذ وقودها كليا ! صامت جامد في مكاني بينما الأشجار تتحرك و الأوراق تتمايل !
الآن رفعت أروى بصرها إلي بابتسامة خجولة لتستشف ردة فعلي...
تسللت من بين شفتي هذه الكلمة :
" معجبة بي .. أنا ؟؟ "
ضحكت أروى ضحكة خفيفة و هي تقول :
" نعم أنت ! "
قلت متأتئا متلعثما :
" أأ لكن .. أنا.. شخص بسيط أعني.. إنني .. خريج سجون و .. "
لم أتم ، فقد نفذت الحروف التي كانت مخزنة على لساني فجأة !
قلت ، و قد تبدّلت تعبيرات وجهي من الخجل و التوتر ، إلى الجدية و الغضب :
" نعم حيوان.. حيوان بشري.. قذر.. كان يجب أن يموت ... "
~ ~ ~ ~ ~ ~
لا أزال مضطجعة على سريري أذرف الدموع الحزينة المريرة... و أعيد في رأسي تقليب الذكريات... و قد مضت ساعات و أنا على هذه الحال
كلما دخل سامر أو دانة هتفت :
" دعوني وحدي ... دعوني وحدي ... "
فالصاعقة لم تكن بالشيء الهيّن ...
أعوذ بذاكرتي للوراء.. ذكريات مغبرة غير واضحة ، لا أستطيع سبر غورها و كشف غموضها و فهم أسرارها...
مبهمة الملامح .. لا تتضح لي صورتها كما ينبغي ... فأبعدها بسرعة و أجبر رأسي على التفكير بشؤون أخرى ...
مساء الغد.. ستغادر دانة مع عريسها بعيدا.. و أظل أنا و سامر.. في الشقة وحدنا.. و مئات من الشحنات المتنافرة تتضارب فيما بيننا...
تموت الفكرة في رأسي .. تحت أقدام أفكار أقوى .. في وجه إعصار الذكريات التعيسة المشؤومة التي عشتها قبل تسع سنين ...
أتخيل نفسي و أنا في تلك السيارة .. أصرخ .. و أصرخ .. و أهتف و استنجد و أستغيث ... و ما من معين..
ما من شيء .. إلا صفعات متتالية على وجهي.. و كف تمتد إلى وجهي و تكتم أنفي و فمي مانعة إياي من الاستغاثة.. و يد تربط أطرافي الأربعة بذلك الحزام الطويل... ثم ترميني عند المدوسة .. تحت المقعد..
بح صوتي من الصراخ ... كنت وحيدة .. لا أحد من أهلي حولي.. و لا من الناس ... في طريق بري مخيف موحش ...بعيدا عن أدنى معاني الأمان و الطمأنينة و أسمعه يقول :
" سيأتي وليد إليك فاخرسي "
أحاول أن أتحرر من القيد.. أحاول الركل و الرفس.. و العض.. و كل شيء .. دون جدوى.. فقد كنت أضعف و أوهن من أن أتغلب على ذلك الوحش القذر...
حينما ظهر وليد أخيرا .. فتح لي الباب ..
قفزت من السيارة راكضة مسرعة نحو وليد.. تعلقّت بعنقه.. أردت أن أحتمي داخل صدره.. أردته أن يبعدني بسرعة عن ذلك المكان.. أن يطير بي عاليا .. إلى حيث لا تصلني يد مؤذ و لا نظراته...
وليد...
آه وليد...
وليد...
أخذت أبكي بقوّة.. بكل ما أوتي جسدي المنهك المصعوق من قوة ..
سمعتني دانة فوافتني إلى الغرفة قلقة .. اقتربت مني و هي تراني في حالة انهيار لا مثيل لها.. أبكي دما لا دموعا ...
" رغد.. أرجوك يكفي ! إلى متى ستظلين هكذا ؟؟ لم لا تنامين فقد انتصف الليل "
" لماذا لم تخبروني بالحقيقة ؟ لماذا كذبتم علي ؟ أعيدوا وليد إلي .. أريد وليد .. أريد وليد "
دانة أمسكت بوجهي في حيرة و اضطراب ، و قالت :
" رغد ! ما الذي تهذين به ؟ أ عاودتك الحمى من جديد ؟؟ "
قلت و أنا أنظر إليها بعمق و تشتت في آن معا في تخبط و ضياع و تيه :
" لم أعتقد أنه مات .. رأيته يهوي أرضا.. لم أفهم ما حصل .. لكن وليد ضربه بسببي أنا .. أنا .. أنا "
و انهرت باكية بحدة على صدرها ...
دانة كانت تحاول إبعادي عنها ليتسنى لها النظر إلى وجهي ، و قراءة ما ارتسم عليه، ألا أنني كنت أدفن رأسي في صدرها بإصرار...
" رغد .. ما الذي تقولينه ؟؟ "
صرّحت :
" لم أفهم ذلك .. لم أع ِ شيئا.. لا أذكر ماذا فعل بي .. لكنه ضربني كثيرا .. و ربطني بالحزام .. "
" عمّ تتحدثين يا رغد بالله عليك أفصحي ما تقولين ؟؟ "
رفعت رأسي أخيرا و نظرت إليها و انفجرت قائلة :
" عمار .. الحقير .. الجبان .. اللعين .. القذر .. اختطفني و حبسني في السيارة.. وليد جاء لإنقاذي و ضربه بالصخرة .. أفهمت الآن؟؟ أفهمت ؟؟ أفهمت ؟؟ "
لم أزد على ما قلت حرفا واحدا، إذ أنني انهرت كليا .. كما انهارت دانة الجالسة قربي.. و عندما طلبت مني سرد الأحداث ، قلت :
" لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد أن أتذكر..، وليد .. أريد وليد.. أريد العودة إلى وليد"
~ ~ ~ ~ ~
الآن.. و في هذا الصباح الجميل .. و تحت أشعة هذه الشمس الجديدة ، أشعر بأنني شخص آخر .. رجل ولد من جديد...
ابتداء من هذا اليوم، دخلت عالما جديدا.. و ودعت عالمي الماضي .. للأبد
أنا اليوم ، وليد .. المزارع البسيط الذي يعمل مع خطيبته و عائلتها في مزرعة صغيرة .. في مدينة بعيدة عن مدينته و أصله و أهله ..
الحياة الماضية قد انتهت ، لا رغد و لا حب و لا جنون.. لا ألم و لا عذاب و لا معاناة.. و لا حرب...
الليلة ، ستدخل رغد عالم المتزوجين، و تصبح زوجة لأخي ، و أقطع آخر خيط أمل في استعادتها ذات يوم..
الذكرى الحزينة أجبرتها على مغادرة رأسي ،، فأنا لا أريد لدمعة واحدة أن تسيل من عيني على ما فات.. و لأعش حياتي الجديدة كما قدّر الله لها أن تكون ...
تخرج أروى من المنزل.. مقبلة نحوي ، تحمل صينية تحوي طعاما...
كنت أقف في الساحة أتنفس الصعداء و أشم رائحة الزهور الفواحة ...
إنه مكان يستحق أن يضحي المرء بأي شيء من أجل العيش فيه ...
" صباح الخير .. وليد "
تبتسم لي و يتورد خداها خجلا.. فيجعلها كلوحة طبيعية بديعة من صنع الإله..
أدقق النظر إليها .. فاكتشف أنها آية في الجمال.. جمال لم ألحظه مسبقا و لم أكن لأعره اهتماما ..
ملونة مثل الزهور.. و خصلات شعرها الذهبي تتراقص مع تيارات الهواء.. لامعة مثل أشعة الشمس..
سبحان الله ..
أحقا ..هذه الحسناء هي زوجة مستقبلي ؟
تقبل إلي و تقول :
" أعددت فطورا خاصا بنا "
ابتسم ، و أقول :
" شكرا .. "
ثم نجلس على البساط المفروش في الساحة، و ننعم بفطور شهي لذيذ.. فمخطوبتي هذه ماهرة جدا في الطهو !
ميزة أخرى تجعلني أشعر بالزهو ...
إضافة إلى كونها طيبة القلب مثل والديها و خالها..
و أكرر في نفسي :
" الحمد لله "
لقد لعبت الأقدار دورها الدرامي معي.. و حين ألقت بي في السجن لثمان سنين ، عرّفتني على رجل عظيم، أصبحت في نهاية المطاف زوجا لابنته !
أظن أن على المرء أن يشكر الله في جميع الأحوال و لا يتذمّر من شيء ، فهو لا يعلم ما الحكمة من وراء بعض الأحداث التي يفرضها عليه القدر ...
سبحان الله
أكثر ما شدّني في الأمر ، هو أنها اعترفت لي البارحة بإعجابها بي !
برغم كل عيوبي و مساوئي، و رغم جهلها بالكثير عن ماضي و أصلي .. ألا أنها ببساطة قالت :
" أنا معجبة بك ! "
اعتقد أن لهذه الجملة تأثيرها الخاص ... و خصوصا على رجل يسمعها للمرة الأولى في حياته من لسان فتاة !
تحدّثنا عن أمور كثيرة... فوجدتها حلوة المعشر و راقية الأسلوب، و اكتشفت أنها أنهت دراستها الثانوية و درست في أحد المعاهد المحلية أيضا ...
قلت :
" كان حلمي أن أدرس في الجامعة ! "
" أي مجال ؟؟ "
" الإدارة و الاقتصاد ، كنت أطمح لامتهان إدارة الأعمال .. تخيّلت نفسي رجل أعمال مرموق ! "
و ضحكت ُ بسخرية من نفسي ...
قال :
" و هل تخلّيت عن هذا الحلم ؟؟ "
قلت بأسف :
" بل هو من تخلّى عنّي .. "
ابتسمت أروى و قالت :
" إذن فطارده ! و أثبت له جدارتك ! "
" كيف ؟؟ "
قالت :
" لم لا تلتحق بمعهد إداري محلي ؟ أتعرف.. زوج السيدة التي كانت معنا البارحة يدير أحد المعاهد و قد ييسر أمورك بتوصية من أمي ! "
بدت لكي فكرة وهمية ... كالبخار.. ألا أن أروى تحدثت بجد أكبر و جعلتني انظر للفكرة بعين الاعتبار.. و أنميها في رأسي...
~ ~ ~ ~ ~
أتتني دانة و أنا لا أزال على سريري و قالت :
" أحضر سامر الفطور... ألن تشاركينا ؟؟ "
لم أجب عليها، فانسحبت من الغرفة..
بعد قليل ، طرق الباب مجددا و دخل سامر هذه المرة ، و أغلق الباب من بعده ..
أقبل نحوي حتى صار جواري مباشرة ، و قال بصوت حنون أجش :
" رغد ... هل ستبقين حبيسة الغرفة هكذا ؟؟ "
و لم أجبه ...
جلس سامر على السرير و مد يده نحو رأسي، و أخذ يمسح على شعري بحنان...
" رغد .. بالله عليك .. "
لكنني لم أتفاعل معه ..
أدار وجهي نحو وجهه و أجبرني على النظر إليه ...
نظراتنا كانت عميقة ذات معنى ...
" رغد .. أنا أتعذب برؤيتك هكذا ... أرجوك .. كفى "
و لم أجب ..
قال :
" أ تحبينه لهذا الحد ؟؟ "
لما سمعت جملته هذه لم أتمالك نفسي.. و بدأت بالبكاء ...
سامر أخذ يمسح الدموع الفائضة من محجري... بلطف و عطف .. ثم قال :
" أنا .. لا أرضى عليك بالحزن .. لا أقبل أن أكون سبب تعاسة أحب مخلوقة إلى قلبي ... "
اعترى نظراتي الآن بعض الاهتمام ..
تابع هو حديثه :
" رغد .. سوف .. اتصل به الآن ، و اطلب منه الحضور .. لأخذك معه "
ذهلت ، و فتحت جفوني لأقصى حد .. غير مصدقة لما التقطته أذناي ...
قال :
" لا تقلقي.. فأنا لن أجبرك على الزواج مني.. و بمجرد عودة والدي ّ .. سأطلق سراحك ... "
شهقت ...
نطقت :
" سامر .. !! "
سامر ابتسم ابتسامة واهنة حزينة .. ثم قرب رأسي من شفتيه، و قبّل جبيني قبلة دافئة طويلة ...
بعد ذلك قال :
" سأتصل به في الحال..، هيا.. فدانة تنتظرك على المائدة .. "
و قام و غادر الغرفة ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
ما كدت أنتهي من وجبة فطوري اللذيذة الطويلة ، حتى أقبلت السيدة ليندا تستدعيني ...
" وليد يا بني ، اتصال لك .. "
تبادلت و أروى نظرة سريعة ، ثم وقفت و الاضطراب يعتريني...
قلت :
" من ؟؟ "
" شقيقك "
و زاد اضطرابي ...
أسرعت إلى الهاتف و التقطت السماعة و تحدثت بقلق :
" نعم ؟ هنا وليد "
" مرحبا يا وليد.. كيف أنت ؟ "
" بخير .. "
و صمت قليلا.. كنت متوجسا من سماع شيء سيئ ، فقد كان اتصالنا الأخير قبل ليلة فقط ...
" ما الأمر سامر ؟؟ "
" لا تقلق ! إنني فقط أريد أن أؤكد عليك الحضور الليلة .. "
فكرت في نفسي .. و من قال إنني أود الحضور ؟؟؟ لم يكن ينقصني إلا أن أشهد يوم تزف فيه رغد.. حبيبتي الغالية.. معشوقة قلبي الصغيرة إلى أخي .. و أنا واقف أتفرج و أبار ك؟؟
" آسف، لن يمكنني الحضور "
" لماذا ؟؟ "
" لدي ارتباطات أخرى.. كما أنني متعب و لا طاقة لي بالسفر.."
" و دانة ؟؟ ألا تريد رؤيتها قبل رحيلها ؟؟ "
لم أجد الجواب المناسب...
ثم قلت :
" إنها لن تتشرف بوجودي على أية حال "
" سأجعلها تحدّثك بنفسها "
ثم ناول الهاتف إلى دانة .. فسمعت صوتها يحييني و يسأل عن أحوالي ، ثم تقول :
" تعال يا وليد.. يجب أن تحضر عرسي "
" آسف ..لا أريد إحراجك أمام زوجك و أهله.. بانتسابك إلى رجل مجرم و خريج سجون "
هنا بدأت دانة بالبكاء و هي تقول :
" أرجوك وليد.. سامحني.."
لم أعقّب .. قالت :
" سأكون أتعس عروس ما لم تحضر .. من أجلي "
" ستكونين أسعد بدون حضوري "
عادت تبكي ثم قالت :
" حسنا ، ليس من أجلي .. بل من أجل رغد "
و شعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ .. أ أحضر من أجل زف حبيبتي إلى عريسها ؟؟
إنني إن حضرت سأرتكب جريمة ثانية ، لا محالة ...
زمجرت :
" لن أحضر "
" و لا من أجلها ؟؟ "
" و لا من أجل أي كان ... "
" لكنها تريدك أن تحضر .. وليد .. أرجوك "
" يكفي يا دانة .. "
" وليد.. رغد مريضة "
هنا.. تفجر قلبي نابضا بعنف و توترت معدتي و تصلبت عضلاتي و اندفعت أنفاسي بقوة و هتفت :
" ما بها رغد ؟؟ "
ألا أ دانة لم تجب .. بل أجهشت بكاء..
و يظهر أن سامر تناول السماعة من يدها
كنت أهتف :
" دانة اخبريني ما بها رغد ؟؟ تكلمي ؟؟ "
جاءني صوت سامر قائلا :
" لا تقلق ، إنها متوترة بعض الشيء "
هتفت بقوة :
" سامر اصدقني القول .. ما بها رغد ؟؟ "
" لا تخشى شيئا يا وليد.. "
" إياكما أن يكون أحدكما قد أذاها في شيء أو أجبرها على شيء ؟؟ "
" لا ، شقيقك ليس وغدا ليجبر فتاة على الزواج منه، و هي كارهة "
كأن كتلة كبيرة من الثلج وقعت فوق رأسي.. أفقدتني السيطرة على لساني و على أطرافي بل و عيني كذلك...
كأنه أغشى علي ... كأني فقدت الوعي و الإدراك .. كأنني سبحت في فضاء رحيب من الوهم و الخيال ...
إنني فعلا على وشك إفراغ كل ما ابتلعته على الفطور خارجا من معدتي... و من فمي ...
و الشيء الذي خرج من فمي كان صوتا مبحوحا ضعيفا مخنوقا سائلا :
" ألن .. تتزوجا الليلة ؟ "
سامر لم يجب مباشرة ، ثم قال :
" إلا إذا عادت العروس و غيّرت رأيها قبل المساء ... "
بعدما أنهيت المكالمة تهالكت على معقد قريب.. و أغمضت عيني ..
كنت أريد فقط أن أتنفس .. كان صدري يتحرك بقوة ، تماما كقوة اندفاع الدم خارجا من قلبي ...
رغد لن تتزوج الليلة ...
رغد لا تزال طليقة ..
رغد لا تزال بين يدي ...
و شعرت بشيء يلامس يدي ...
فتحت عيني و لساني يكاد يصرخ :
" رغد ! "
فوقعت عيناي على أروى .. واقفة أمامي مباشرة تلامس يدي .. و تقول بابتسامة ممزوجة ببعض القلق :
" ما الأمر وليد ؟؟ "
كدت أضحك !
نعم إنني أريد الآن أن أضحك لسخرية القدر مني !
بل بدأت بالضحك فعلا ...
و أروى ضحكت لضحكي .. و هي تجهل ما حقائق الأمور ...
قالت :
" ما يضحكك وليد ؟ أضحكني معك ؟؟ "
حدّقت بها فرأيت ما لم أتمنى أن أراه ...
قلت :
" أختي دانة ستتزوّج الليلة .. "
اتسعت ابتسامتها و قالت :
" صحيح ؟ أين ؟ مبروك ! "
هززت رأسي ساخرا من حالي المضحك ، و قلت :
" حفلة صغيرة جدا ، في الشقة التي يسكنون فيها.. و هي تريد مني الحضور "
أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد...
رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، ألا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ...
كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة...
سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات .
حاولت مساعدتهم ألا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب..
بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا..
ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟
من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها...
و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، ألا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ...
لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت :
" سأتخلص منك أخيرا ! "
انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا !
" لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! "
" هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! "
الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ...
نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي... كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال...
أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس :
" على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! "
ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها...
رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟
هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟
وليد قلبي ...
آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ...
عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ...
قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا !
ألا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ... بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، لمياء و بشرى و رحاب ، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا !
شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر !
حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء !
مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ...
ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ...
قلت :
" ألم يحضر وليد ؟؟ "
سامر تظاهر بالابتسام و قال :
" ليس بعد "
قلت :
" هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ "
" قال أن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... "
نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس...
قال سامر :
" لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... "
ثم غادر المطبخ ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ...
إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي..
أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد...
أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني !
رغد لم تقل لي من قبل : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) .. بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا...
الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ...
أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها..
أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا )
و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع...
و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ...
لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟
إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله..
حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه..
و ليته كان أنا...
و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي...
غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري...
نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأن**ر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ...
عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعون دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ...
قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب :
" أنا وليد "
جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب ..
تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء !
" مرحبا ، سامر ... "
بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ...
وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة !
قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء :
" أروى نديم ، تعرفها "
قلت :
" أأ .. أجل ... "
قال :
" خطيبتي "
و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية !
اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم !
" خـ ... طيبتك !! "
" نعم ، ارتبطنا البارحة "
نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد ..
طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ...
" وليد ! "
أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما...
" نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. "
وليد قال :
" مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. "
بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول :
" سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. "
وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا :
" لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! "
رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول :
" لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! "
قلت أنا :
" احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! "
و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة...
التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ...
قال :
" اقتربي أروى "
اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها ..
" مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! "
دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد :
" هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ "
وليد قال :
" أروى فقط.. "
فتعجبت دانة ، فوضّح :
" خطيبتي "
طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد :
" خطيبتك !! "
قال وليد :
" نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا "
الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، ألا أنها أخيرا تحدّثت :
" فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال "
و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة...
قلت :
" فلتتفضل الآنسة ... "
دانة التفتت إلى أروى و قالت :
" تفضلي "
و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي :
" رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... "
و كان القلق جليا على ملامحها ...
قال وليد :
" جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ "
تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي :
" نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع "
و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي !
وليد التفت إلي و قال :
" أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن "
أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا ..
قلت باستسلام :
" أجل ، تفضل ... "
و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ...
طرقت الباب و قلت :
" رغد .. وليد معي "
قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها..
ألا أنني ما كدت أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة :
" وليد ! "
أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... ألا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال :
" وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. "
~ ~ ~ ~ ~
و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، ألا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم...
و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ...
لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى...
و حين فتح الباب.. كنت قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء..
أي شيء ..
لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد ت**ر ضلوعي و تخترق قلبي...
بل إنها اخترقته ..
فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد...
و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ساكنا.. دون أي ردّة فعل ...
كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف :
" لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ "
شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ...
بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ...
لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ...
" لا تبكي صغيرتي أرجوك .. "
فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى...
إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ...
أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة..
رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس !
قالت :
" لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ "
و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان !
نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار...
لطفك يا رب ...
قلت أخيرا :
" أنت من أخبرها ؟؟ "
سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها...
أعدت النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤال :
" لماذا لم تخبرني؟؟ "
أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟
أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟
لا يا رغد .. أرجوك لا ..
قلت بلا حول و لا قوة :
" ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ "
و انتظرت إجابتها بقلق...
قالت :
" بل يغيّر كل شيء ... "
و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد...
قالت:
" وليد ... وليد أنا ... "
و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و ت**وها علامات القلق...
جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر... شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ...
سألت :
" ما الأمر ؟؟ "
لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء ألا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر:
" رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! "
ثم التفتت نحو سامر :
" إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! "
و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة "
سامر نطق أخيرا :
" سأستدعيه... أخبريهن "
و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة:
" أعطها لسامر الآن .. "
التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه...
سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ...
أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال ..
" سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. "
قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة...
هممت ُ أنا باللحاق به... ألا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت :
" كيف قدمك الآن ؟ "
رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت :
" طاب الجرح... "
قلت :
" الحمد لله "
ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...
كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا م**ور الخاطر ...
اندفعت إليه بجنون... و أي جنون !
ظللت أراقبه و هو يوّلي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه،و كأنني لازلت أبصر الكتفين لأمامي !
" رغد ! "
نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها...
أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لابتسم !
لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت :
" ما بك ؟ "
" لا ... لا شيء "
" سأغسل وجهي و أوافيكن... "
و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة !
بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء تلتقط الصور لهما..
جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن...
فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه !
وجه أروى الحسناء !
دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة :
" مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ "
" أروى ! "
" مفاجأة أليس كذلك ؟؟ "
اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز !
قلت :
" أهلا بك ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ "
ابتسمت و قالت :
" مع وليد "
مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟
" مع وليد ؟؟ "
ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت :
" ألم تخبرك دانة ؟؟ "
التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة.. دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت :
" إنها ... إنها و وليد... "
و لم تتم...
نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا :
" ارتبطنا .. البارحة "
عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟
" ماذا ؟؟ "
و رأيتها تبتسم و تقول :
" مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ "
نظرت إلى دانة لتسعفني ...
دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا...
دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض...
غير صحيح !
غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ...
" أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ "
" نعم ، البارحة ..و جئت معه كي أبارك للعريسين زواجهما.."
خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء...
" سامر .. تعال بسرعة"
هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع.. أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا...
~ ~ ~ ~ ~
عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض...
كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف :
" سامر ..تعال بسرعة"
قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك.. دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها...
أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف
" رغد.. أفيقي... "
صرخت :
" ماذا حدث لها ؟؟ "
دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا...
استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر...
قال سامر :
" سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ "
قالت دانة :
" أأنت على ما يرام رغد ؟؟ "
قلت أنا :
" ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ "
نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت :
" سأتقيأ "
بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ...
سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم :
" يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..."
قلت :
" صغيرتي ؟؟ "
رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبلله ملابسه بالدموع..
" صغيرتي ..؟؟ "
" دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. "
و أجهشت بكاء شديدا...
لم أعزم الحراك و لم استطعه، ألا أن دانة قالت لي :
" لنخرج وليد "
قلت بقلق :
" ماذا حدث يا دانة ؟؟ "
قالت :
" قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... "
صعقني هذا النبأ..
قلت مخاطبا رغد:
" رغد هل أنت بخير..؟؟ "
لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت :
" دعوني وحدي... دعوني وحدي.."
يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب...
حاولت التحدث معها ألا أنها اعترضت حديثي قائلة :
" سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... "
و انصرفت...
بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟
لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد
" وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه "
" حسنا.. "
و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين...
أروى كانت بالداخل أيضا..
عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي...
فيما بعد، جاء نوّار و قال :
" سننطلق إلى الفندق الآن.."
و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج...
سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب..
ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب..
" سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.."
فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب ..
قلت:
" كيف رغد؟؟ "
قال بجمود :
" أفضل قليلا"
أردت أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول..
قلت :
" إنهما يودان الانصراف الآن... "
سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال :
" أتستطيع مرافقتهما ؟؟ "
" أنا ؟؟ "
" نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها "
فزعت، و قلت:
" أهي بحالة سيئة؟ "
" لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا "
" إنني أجهل الطريق.. "
" اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..."
لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا:
" اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..."
أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها...
~ ~ ~ ~ ~
" أنا تعيسة جدا "
كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي..
دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. ألا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي...
" لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..."
و بكيت بتهيج..
" يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! "
انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟
طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت :
" عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة "
تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل...
قدم سامر.. و قال :
" هيا دانة .. "
صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة...
لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه...
سمعت سامر يقول :
" سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك "
و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول :
" سأنام.."
أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة...
دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. ألا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ...
" أحلام سعيدة يا حبيبتي"
و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب..
فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟ لست أكيدة.. و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر...