رغد لم تكلمني طوال الصباح التالي ، بل و لم تنظر إلي ...
كانت حزينة و قد غابت ضحكتها الجميلة و مرحها الذي يملأ الأجواء حياة و حيوية ...
الجميع لاحظ ذلك ، و استنتجوا انه بسبب موضوع سفري و غضب والدي منها يوم الأمس ...
و كالعادة ، أوصلت سامر إلى مدرسته ، ثم دانة و رغد ....
وهي تسير مبتعدة عن السيارة و متجهة نحو مدخل المدرسة ، كانت رغد مطأطئة الرأس متباطئة الخطى
جعلت أراقبها قليلا ، فألقت علي نظرة حزينة كئيبة لم أتحمل رؤيتها ،فابتعدت قاصدا المكان الذي سأجري فيه اختباري المصيري ...
المشوار إلى هناك يستغرق قرابة الساعة ، و كنت ألقي بنظرة على الساعة بين الفينة و الأخرى خشية التأخر
أعرف أنها فرصة العمر و أي تأخير مني قد يضيعها ...
حينما أوشكت على الوصول ، وردتني مكاملة هاتفية عبر هاتفي المحمول ، من صديقي ( سيف ) يتأكد من وشوكي على الوصول . و سيف هذا هو أقرب أصحابي ، و هو مرشح معي أيضا لدخول الامتحان .
بعد دقيقة ، عاد هاتفي يرن من جديد ...
كان رقما مجهولا !
" مرحبا ! لابد أنك وليد ! "
بدا صوتا غير معروف ، سألته "
" من أنت ؟؟ "
قال :
" يا لذاكرتك الضعيفة يا مسكين ! يبدو أن الضرب الذي تلقيته من قبضتي قد أودى بقدراتك العقلية ! "
الآن استطعت تمييز المتحدث ... إنه عمّار !
" عمّار ؟؟؟ !"
" أحسنت ! هكذا تعجبني ! "
استأت ، كيف حصل على رقم هاتفي الخاص و ما الذي يريده مني ؟
" ماذا تريد ؟ "
" انتبه و أنت تقود ! أخشى أن تصاب بمكروه ! "
" أجب ماذا تريد ؟؟ "
ضحك ذات الضحكة الكريهة و قال :
" لا شك أنك في طريقك للامتحان ! أليس كذلك ! إن الوقت سيستغرق منك أقل من ساعتين فيما لو قررت الذهاب إلى المطار ! "
ضقت ذرعا به ، قلت :
" هل لي أن أعرف سبب اتصالك ؟ فإما أن تقول ماذا أو أنهي المكالمة "
" رويدك يا صديقي ! سأمهلك ساعتين فقط ، حتى تمثل أمامي و تعتذر قبل أن أسافر بهذه الصغيرة بأي طائرة ، إلى الجحيم ! "
بعدها سمعت صرخة جعلت جسدي ينتفض فجأة و يدي ترتعشان ، و المقود يفلت من بينهما ، و السيارة تنحرف عن حط مسيرها ، حتى كدت أصطدم بما كان أمامي لو لم تتدخل العناية الربانية لإنقاذي ....
" وليد ... تعال ... "
لقد كان صوت رغد ....
جن جنوني ...
فقدت كل معنى للقدرة على السيطرة يمكن أن يمتلكه أي إنسان ... مهما ضعف
صرخت :
" رغد ! أهذه أنت رغد ؟؟ أجيبي "
فجاء صوت صراخها و بكاؤها الذي أحفظه جيدا يؤكد أن أذني لا زالتا تعملان بشكل جيد ...
" رغد أين أنت ؟ رغد ردي علي ّ "
فرد عمّار قائلا :
" تجدنا في طريق المطار ! لا تتأخر فطائرتي ستقلع بعد ساعتين ... إلا إن كنت لا تمانع في أن أصطحب شقيقتك معي !؟ "
صرخت :
" أيها الوغد أقسم إن أذيتها لأقتلنك ... لأقتلنك يا جبان "
ضحك ، و قال :
" لا تتأخر عزيزي و لا تثر غضبي ! تذكر ... طريق المطار "
ثم أنهى المكالمة ...
استدرت بسيارتي بجنون ، و انطلقت بالسرعة القصوى متجها نحو المطار ...
لم أكن أرى الطريق أمامي ، الشوارع و السيارات و الإشارات ... اجتزتها كلها دون أن أرى شيئا منها
لم أكن أرى سوى رغد
و أتذكر كيف كانت تنظر إلي قبل ساعة ...
ثم أتخيلها في مكان بين يدي عمّار
لم أعرف كيف أربط بين الأحداث أو أفكر في كيفية حدوث أي شيء ...
أريد أن أصل فقط إلى حيث رغد
لا أعرف كم الوقت استغرقت ...
شهر ؟
سنة ؟
قرن ؟
بدا طويلا جدا لا نهاية له ...
و سرت كقارب تائه في قلب المحيط ...
أو شهب منطلق في فضاء الكون ...
لا يعرف إلى أين ...
و متى
و كيف سيصل ...
و بم سيصطدم ...
أخذت هاتفي و اتصلت برقم عمّار الظاهر لدي ، أجاب مباشرة :
" لقد انقضت عشرون دقيقة ! أسرع فشقيقتك ترتجف خوفا ! "
" إياك أن تؤذها و إلا ... "
" سأفعل إن تأخرت ! "
" أيها الـ ... ... ... دعني أتحدث إليها "
جاءني صوتها الباكي المذعور :
" وليد لا تتركني هنا "
" رغد ... عزيزتي أنا قادم الآن ... لا تخافي صغيرتي أنا قادم "
" أنا خائفة وليد تعال بسرعة أرجوك ... آه ... أرجوك ... "
أي عقل تبقى لي ؟؟
لماذا لا تتحرك هذه السيارة اللعينة ؟
لماذا لم اشتر صاروخا لمثل هذه الظروف ؟
لماذا لم تحترق في الحرب يا عمّار ...
ألف لعنة و لعنة عليك أيها الجبان ... ويل لك مني ..
بعد ساعة و نصف ، و فيما أنا منطلق كالبرق على الشارع المؤدي إلى المطار ، إذا بي ألمح سيارة تقف جانبا ، و يقف عندها رجل
و أنا أقترب توضح لي أنه عمّار
بسرعة ، أوقفت سيارتي خلف سيارته مباشرة و نزلت منها كالقذيفة و ركضت نحوه ، في الوقت الذي فتح هو في الباب ، و أخرج رغد من السيارة ...
جاءت رغد تركض نحوي فالتقطتها و رفعتها عن الأرض و أطبقت بذراعي حولها بقوة ...
" رغد ... رغد صغيرتي ... أنا هنا ... أنا هنا عزيزتي "
رغد كانت تحاول أن تتكلم لكنها لم تستطع من شدة الذعر ...
كانت ترتجف بين يدي ارتجاف الزلزال المدمر ... كانت تحاول النطق باسمي لكن لم تستطع النطق بأكثر من
" و ... و ... و "
انهمرت دموعي كالشلال و أنا أضغط عليها و هي تضغط علي و تتشبث بي بقوة و أشعر بأصابعها تكاد تخترق جسدي فيما ترفع رجليها للأعلى كأنما تتسلقني خشية أن تلامس رجلها الأرض و تفقدها الأمان ...
" أنا معك عزيزتي لا تخافي ... معك يا طفلتي معك ... "
حاولت أن أبعد رأسها قليلا عني حتى أتمكن من رؤية عينيها و إشعارها بالأمان ، لكنها بدأت بالصراخ و تشبثت بي بقوة أكبر و أكبر كأنها تريد أن تدخل بداخلي ...
" وليد ! لديك امتحان مهم ! هل ستضيّع الفرصة ؟ "
قال هذا عمّار الوغد و أطلق ضحكة كبيرة ...
انتابتني رغبة في تحطيمه ألا أن رغد عادت تصرخ حينما خطوت خطوة واحدة نحوه ...
" خسارة يا وليد ! جرّب حظك في مصنع والدي ! "
و ابتسم بخبث :
" دفّعتك الثمن ... كما وعدت "
ثم استدار و هم بركوب سيارته ...
خطوت خطرة أخرى نحوه ، فأخذت رغد تصرخ بجنون :
" لا .. لا .. لا .. لا .. لا "
انثنى عمّار ليدخل السيارة ، ثم توقف ، و استقام ، و استدار نحوي و قال :
" نسيت أن أعيد هذا ! "
و من جيب بنطاله أخرج شريطا قماشيا طويلا ، و رماه في الهواء باتجاهي
رقص الشريط كالحية في الهواء ، وأنا أراقبه ، في نفس اللحظة التي ظهرت فيها طائرة في السماء مخترقة قرص الشمس المعشية ، و دوت بصوتها في الأجواء ، فيما يتداخل صوتها مع صوت عمّار وهو يقول :
" إلى الجحيم ! "
ثم هبط الشريط المتراقص تدريجيا و بتمايل حتى استقر عند قدمي ّ ...
ركزت نظري على الشريط ، لأكتشف أنه الحزام الذي تلفه رغد حول خصرها ، و التابع لزيها المدرسي الذي ترتديه الآن ...
رفعت نظري ببطء و ذهول و صعق إلى وجه عمّار ، فحرك هذا الأخير زاوية فمه اليمنى بخبث إلى الأعلى في ابتسامة قضت علي ّ تماما ... و دمرتني تدميرا
أبعدت وجه رغد عن كتفي و أجبرتها على النظر إلي ... فيما أنا عاجز عن رؤية شيء ... من عشي الشمس ... و هول ما أنا فيه ...
لم أر إلا دمارا و حطاما و نارا و جحيما ...
لهيبا ... و صراخا ... و دموعا تحترق ... و آمالا تتبعثر ... و أحلاما تظلم ...
سوادا في سواد ...
عند هذه اللحظة ، نزعت رغد عني عنوة ، و دفعت بها أرضا و نظرت من حولي فإذا بي أرى صخور كبيرة قربي ...
التقطت واحدة منها ، و بسرعة لا تجعل مجالا للمح البصر بإدراكها ، و قوة لا تسمح لشيء بمعا**تها ، رميتها نحو عمار و هو يهم بركوب سيارته ، فارتطمت برأسه ... و صرخ ... و ترنح لثوان ..
ثم هوى أرضا ...
و انتفض جسده ...
و انتزعت روحه ...
و إلى الجحيم ...
الى الجحيــــــــم يا عمــــــــــار
يتبـــــع
يتبع الحلقة السادسة
وقفت جامدا في مكاني ، و أنا أراقب عمّار يترنح ، ثم يهوي ، و تسكن حركاته ...
كان دوي الطائرة يزلزل طلبتي أذني ... دققت النظر إليه ... لم يحرّك ساكنا
رفعت قدمي بصعوبة و حثثتها على السير نحو عمّار
بصعوبة وصلت قربه فرأيت عينيه مفتوحتين ، و الدماء تسيل من أنفه ، و صدره
ساكنا عن أية أنفاس ...
أدركت ... أنه مات ... و إنني أنا ... من قتله
استدرت للخلف و عيناي تفتشان عن رغد ...
صغيرتي الحبيبة ...
مدللتي الغالية ...
مهجة قلبي ...
رأيتها تقف بذعر عند سيارتي ، و تنظر إلي و دموعها تنهمر بغزارة ، فيما يستلقي
حزامها القماشي على الرمال الناعمة بكل هدوء ...
بتثاقل و بطء ، بانهيار و ضعف شديدين ، سرت باتجاهها ...
نفذ كل ما كان في جسدي من طاقة ، فكأنما كنت أعمل على بطارية انتزعت مني
و تركتني بلا طاقة و لا حراك ...
في منتصف الطريق ، انهرت ...
خررت على الأرض كما تخر قطعة قماش كانت متدلية كالستار المثبت إلى الحائط
و ارتطمت ركبتاي بالرمال ... و هبطت أنظاري برأسي نحو الأرض ...
رفعت رأسي بصعوبة و نظرت إلى رغد ، و هي لا تزال واقفة في نفس الموضع و الوضع ...
بصعوبة فتحت ذراعي قليلا ، و قلت بصوت مخنوق خرج من رئتي :
" تعالي ... "
رغد نظرت إلي دون أن تتحرك ، فعدت أقول :
" تعالي ... رغد "
الآن ، أقبلت نحوي بسرعة ، و بقوة ارتمت في حضني و كادت تلقيني أرضا ...
طوّقتني بذراعيها بقوة ، و حين حاولت تطويقها أنا عجزت إلا عن رممي ذراعي المنهارتين حولها بضعف
بكيت كثيرا ... و كثيرا جدا ...
لما ضاع ... و لما انتهى ..
و لما هو آت و محتوم ...
بقينا على هذا الوضع بضع دقائق ، لا أقوى على قول أو فعل شيء ... و السكون التام يسيطر على الأجواء ...
كان طريقا بريا موحشا ، و لم تمر بنا أية سيارة حتى الآن ...
استعدت من القوة ما أمكنني من تحريك يدي قليلا ، فجعلت أمسح على رأس طفلتي و أنا أقول بحرقة و مرارة :
" سامحيني يا رغد ... سامحيني ... "
رغد استردت أنفاسها التائهة ، و قالت و وجهها لا يزال مغمورا في صدري :
" دعنا نعود للبيت "
أبعدت رأسها قليلا عني و سمحت لأعيينا باللقاء ... و أي لقاء ؟؟
لقاء مبلل بسيول عارمة من الدموع الدامية
لم يجد لساني ما يستطيع النطق به ...
حاولت النهوض أخيرا ، و ذراعاي تجاهدان من أجل حمل الصغيرة ، ففشلت
أطلقت صيحة حسرة و ألم مريرة تمنيت لو أنها زلزلت الكون كله ، و حطمت كل الأجرام و الكواكب و من عليها ... و محت الدنيا من الوجود ...
و طفلتي الصغيرة تبكي على صدري مذعورة فزعة ... و عدوّي الوغد جثة هامدة تقطر دما ... و حلمي الكبير قد ضاع و تلاشى كغبار عصفت به ريح غادرة ... و مصيري المجهول البعيد ... كما وراء الأفق ... و الساحة الخالية إلا من رغد وأنا ... و الشمس تشهد ما حدث و يحدث ... رفعت يدي إلى السماء ... و صرخت :
" يا رب .... "
استطعت أخيرا أن اشحن بالطاقة الكافية ، لأنهض و أحمل صغيرتي على ذراعي ، و أسير بها نحو السيارة ...
لم أجلسها على المقعد المجاور لا ، بل أجلستها ملتصقة بي ، فأنا لا أريد لبضع بوصات أن تبعدها عني ...
رن هاتفي المحمول ، و الذي كان في السيارة ، ألقيت نظرة لا مبالية على اسم المتصل الظاهر في الشاشة ، كان صديقي سيف ، أخذت الهاتف و أسكته ، و ألقيت به جانبا ... فكل شيء قد انتهى ...
انطلقت بالسيارة ببطء ، و أنا لا أعرف إلى أين أتجه ... فكل شيء أمامي كان مبهما و مجهولا ...
قطعت مسافة طويلة في اتجاهات متعددة ، و نار صدري تتأجج ، و دموعي عاجزة عن إطفاء شرارة واحدة منها ...
صغيرتي ، ظلت متشبثة بي ، لا تتكلم ، و تنحدر دمعة من عينها تخترق صدري و تمزق قلمي قبل أن ينتهي بها المصير إلى ملابسها المتعطشة لمزيد من الدموع ...
بعد فترة ، مررت في طريقي بحديقة عامة
و تصورا أي تصرف لا يمت لوضعي بصلة ، هو الذي بدر مني دون تفكير !
" رغد عزيزتي ، ما رأيك باللعب هنا قليلا ؟ "
رغد رفعت بصرها إلي ببراءة و شيء من الاستغراب ... فحتى على طفلة صغيرة محدودة المدارك ، لا يبدو هذا تصرفا طبيعيا ..
" سأشتري بعض البوضا لنا أيضا ! هيا بنا "
و أوقفت السيارة ، و فتحت الباب ، و نزلت و أنزلتها عبر الباب ذاته .
أمسكت بيدها و حثثتها على السير معي نحو مدخل الحديقة
هناك ، كان العدد القليل جدا من الناس يتنزهون ، مع أطفالهم الصغار ، فهو نهار يوم دراسي و حار ...
إنني اعرف أن صغيرتي تحب الأراجيح كثيرا ، لذا ، أخذتها إلى الأرجوحة و بدأت أؤرجحها بخفة ...
تخلخل الهواء ملابسها الغارقة في الدموع ، فجففها ، و صافحت وجهها الكئيب فأنعشته ...
تصوروا أنها ابتسمت لي !
عندما كانت رغد تبتسم ، فإن الدنيا كلها ترقص بفرح في عيني ّ و البهجة تجتاح فؤادي و أي غبار لأي هموم يتبعثر و يتلاشى ...
أما هذه الابتسامة ... فقد قتلتني ...
لم أع لنفسي إلا و الدموع تقفز من عيني ّ قفزا ، و أوصالي ترتجف ارتجافا ، و قلبي يكاد ي**ر ضلوعي من شدة و قوة نبضاته ...
تبتسمين يا رغد ؟ بكل بساطة ... و كأن شيئا لم يكن !؟
ألا يا ليتني ... قتلتك يا عماّر يوم تعاركنا ...
ليتني قضيت عليك منذ سنين ...
ليتني أحرقتك قبل أن تحرق قلبي و تدمر ماضي و مستقبلي ... و تحطّم أغلى ما لدي ...
" وليد "
انتبهت على صوت رغد تناديني ، و أنا غارق في الحزن المرير ...
مسحت دموعي بلا جدوى ، فالسيل منهمر و الدمعة تجر الدمعة ...
" نعم غاليتي ؟ "
" هل نشتري البوضا الآن ؟ "
أغمضت عيني ...
و أوقفت الأرجوحة شيئا فشيئا ، فنزلت و استدارت إلي ... فأخذتها في حضني و قلت باكيا و مبتسما :
" نعم يا صغيرتي ، سنشتري البوضا و أي شيء تريدينه ... و كل شيء تتمنينه ... أي شيء أيتها الحبيبة ... أي شيء ... أي شيء ... "
و انخرطت في بكاء قوي ...
رغد ، تبدلت تعابير وجهها و قالت و هي تندفع للبكاء :
" لا تبكي وليد أرجوك "
و أجهشت بكاءا هي الأخرى ...
جذبتها إلى صدري و طوقتها بحنان و عاطفة ممزقة ... و بكينا سوية بكاءا يعجز اللسان عن وصفه ...
و القلب عن تحمله ..
و الكون عن استيعاب فيض عبره
و امتزجت دموعنا ...
و لو مر أحد منا لبكى ...
و لو شهدتم بكاءنا لخررتم باكيين ...
ألا و حسبنا الله و نعم الوكيل ....
بعد ذلك ، مسحت دموعها و دموعي ، و ابتسمت لها :
" إلى البوضا الآن ! "
حملت الطفلة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن الضئيلة الجسم البريئة الروح على ذراعي ، فهي تحب ذلك ...
و أنا سأفعل كل ما تحبه و تريده ... و لو أملك الدنيا و ما عليها لقدمتها لها فورا ...
قبل الرحيل ...
و هل سيعوّض ذلك شيئا ...؟؟
اشترينا البوضا ، و جلسنا نتناولها قرب النافورة ، و حين فرغت من نصيبها اشتريت لها واحدا آخر ...
و كذلك ، أطعمتها البطاطا المقلية فهي تحبها كثيرا !
أطعمتها بيدي هاتين ...
نعم ... بهاتين اليدين اللتين كثيرا ما اعتنتا بها ... في كل شيء ...
و اللتين قتلتا عمّار قبل قليل ...
و اللتين ستكبلان بالقيود ، و تذهبان إلى حيث لا يمكنني التكهن ...
جعلتها تلعب بجميع الألعاب التي تحبها ، دون قيود و دون حدود ، بل ركبت معها و للمرة الثانية في حياتها ذلك القطار السريع الذي جربنا ركوب مثيله قبل 3 سنوات ...
و كم أسعدتها التجربة الثانية !
نعم ... ببساطة ... أسعدتها !
كأي طفلة صغيرة وجدت فرصة لتلهو ... دون أن تدرك حقائق الأمور ...
لهونا كثيرا ... ، و حين اقترب الموعد الذي يفترض أن أكون فيه عند مدرسة رغد و دانة ، في انتظار خروجهما ...
" عزيزتي ، سنذهب لأخذ دانة من المدرسة ، لا تخبريها عن أي شيء "
نظرت رغد إلي باستفهام ، أمسكت بكتفيها و قلت مؤكدا :
" لا تخبري أحدا عن أي شيء ، أنا سأخبرهم بأنك لم تشائي الذهاب للمدرسة فأخذتك معي ... اتفقنا رغد ؟ عديني بذلك ؟ "
و ضغط على كتفيها و بدا الحزم في عيني ... فقالت :
" حسنا "
قلت مؤكدا :
" أخبريهم فقط أنك ذهبت معي ، و نمت أثناء الطريق و لا تعلمين أي شيء آخر ... لا تأتي بذكر أي شيء آخر رغد ... فهمت ِ عزيزتي ؟ "
" نعم "
" عديني بذلك يا رغد ... عديني "
" أعدك ... وليد "
" إذا أخلفت وعدك ، فإنني سأرحل و لن أعود إليك ثانية "
توجم وجهها ، ثم أمسكت بيدي و شدّت قبضتها بقوة و اغرورقت عيناها بالدموع و تعابيرها بالفزع و قالت :
" لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني . أعدك . أعدك "
وصلنا إلى البيت أخيرا ، بدا الوضع شبه طبيعي ، إلا من سكون غريب من قبل رغد و التي يفترض بها أن تكون مرحة ...
الكل عزا ذلك للحزن الذي يعتريها بسبب سفري المرتقب .
سألتني أمي :
" كيف كان الامتحان ؟ "
قلت :
" سأخبرك بعد الغذاء "
و تركت العائلة تنعم بوجبة هنيئة أخيرة ...
بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة والدي ّ في وقت قيلولتهما الصغيرة ...
" والدي ... والدتي ... لدي ما أخبركما به "
بدا القلق على وجهيهما ، و تلعثمت الكلمات على لساني...
أمي ، حين لاحظت حالتي المقلقة قالت :
" هل الامتحان .... ؟؟ "
قلت :
" لم أحضر الامتحان "
اندهشا و تفاجأا ...
قال والدي :
" لم تحضره ؟ كيف ؟؟ لماذا ؟؟ ماذا حصل ؟؟ "
نظرت إليهما ، و سالت دموعي ... و انهرت ... و طأطأت رأسي للأرض ...
هتفت أمي بقلق و فزع :
" وليد ؟؟ "
أخذت نفسا عميقا ... و رفعت بصري إليهما و بلسان مرتجف و جسد يرتعش و شفتين مترددتين قلت :
" لقد .... قتلت عمّار "
الهاتف المحمول الخاص بعمار، و الرقم الأخير الذي تم طلبه ، و الأخير الذي تم استقباله فيه ، و توقيت الاتصال ، و توقيت حدوث الوفاة ، و العراك الذي حصل مؤخرا بيني و بينه و تدخلت فيه الشرطة ، و عدم حضوري للامتحان ، كلها أمور قد قادت الشرطة إلي ّ بحيث لم يكن اعترافي ليزيدهم يقينا بأنني الفاعل ...
بقي ... شيء حيّرهم ... تركته ساكنا في قلب الرمال ...
حزام رغد
ما سر وجوده هناك ... ؟؟
أنكرت أي صلة لرغد بالموضوع بتاتا ، و لدى استجوابها أخبرتهم أنها لا تعرف شيئا ، حسب اتفاقنا
سيف أيضا تم التحقيق معه ، و أكد للشرطة أنه حين اتصل بي كنت على مقربة من المبنى حيث قاعة الامتحان
و ظل السؤال الحائر :
لماذا عدت أدراجي ؟
ما الذي دفعني للذهاب إلى شارع المطار ، و الشجار مع عمّار ، و من ثم قتله
لماذا قتلت عمّار ؟؟
ما الذي أخفيه عن الجميع ؟؟
والد صديقي سيف كان محاميا تولى الدفاع عني في القضية ، باعتبار أنني قتلته دون قصد ... و أثناء شجار ... و بدافع كبير أصر على كتمانه ... و سأظل أكتمه في صدري ما حييت ... فإن هم حكموا بإعدامي ... أخبرت أمي قبل تنفيذ الحكم ...
و إن عشت ، سأقتل السر في صدري إلى أن أعود ... من أجل صغيرتي ...
تعقدت الأمور و تشابكت ... و ظلّ الغامض غامضا و المجهول مجهولا ، و حكم علي ّ بالسجن لأمد بعيد ...
" أمي ... أرجوك ... لا تخبري رغد بأنني ذهبت للسجن ... اخبريها بأنني سافرت لأدرس ... و سأعود حالما أنتهي ... و قولي لها أن تنتظرني "
" أبي ... أرجوك ... لا تقسو على رغد أبدا ... اعتنوا بها جيدا جميعكم ... فأنا لن أكون موجودا لأفعل ذلك "
كان ذلك في لقائي الأخير بوالدي ّ ، قبل أن يتم ترحيلي إلى سجن العاصمة ، حيث سأقضي سنوات شبابي و زهرة عمري فيه ... بدلا من الدراسة في الجامعة ... و أعود إن قدرت لي العودة خريج سجون بدلا من خريج جامعات ... و بمستقبل أسود منته ، بدلا من بداية حياة جديدة و أمل ...
هكذا ، انتهت بي الأحلام الجميلة ...
هكذا ، أبعدت عن رغد ... محبوبتي الصغيرة ، و لم يبق لي منها إلا صورتين كنت قد وضعتهما في محفظتي قبل أيام ...
و ذكريات لا تنسى أحملها في دماغي و أحلم بها كل ليلة ...
و صورتها الأخيرة مطبوعة في مخيلتي و هي تقول :
" لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني ))
توقيع yuri19_86
عدل سابقا من قبل yuri19_86 في السبت يناير 02, 2010 1:06 am عدل 1 مرات
********************* لأن أخي وليد لم يعد موجودا ، فسأخبركم أنا ببعض ما حدث في بيتنا بعد المصيبة العظمى .
لم يكن تقبل أي منا لا أنا و لا والديّ أو دانة أو رغد لغياب وليد بالشيء السهل مطلقا
و خصوصا رغد ، فهي متعلقة به كثيرا و رحيله أحدث كارثة بالنسبة لها
مرضت رغد في بداية الأمر بشكل ينذر بالخطر .
وليد قبل أن يخرج مع أبي من المنزل ذلك اليوم إلى حيث لم نكن نعلم ، مر بغرفة رغد و قد كانت مقيلة بعد الظهيرة . أظنه ظل ّ يبكي هناك لفترة طويلة ... فتش جيوبه ثم أخرج مجموعة من تذاكر ألعاب حديقة الملاهي ، و وضعها إلى جانبها كما وضع ساعة يده ... ثم قبل جبينها و غادر
أتى إلينا واحدا واحدا و جعل يعانقنا بحرارة و دموع مستمرة ...
عندما سألت دانة :
" إلى أين تذهب يا وليد ؟؟ "
أجاب أبي :
" سيسافر ليدرس كما تعلمون "
الذي نعلمه أن موعد السفر لم يكن في ذلك اليوم ... و لو يكن قد تحدد
إنني لم أعرف أنه في السجن غير اليوم التالي ، و قد أجبرت على كتم السر هذا عن الصغيرتين .
صحيح أنني تمنيت أن يهلك عمّار لحظة أن سخر مني و جعل الناس من حولي يضحكون علي ، ألا أنني لم أتمنى أن يكون شقيقي الأكبر و أخي الوحيد هو من يهلكه...
خلال السنوات الماضية ، كثيرا ما كان الشجار ينشب بينهما و عراكنا الأخير لم يكن غير حلقة من السلسلة ... خاتمة السلسلة الحلقة الأخيرة ...
فيما كنا جالسين في غرفة المعيشة بعد مغادرة أبي و وليد وصلنا صراخ غير طبيعي من غرفة رغد
أسرعنا جميعا نحوها فوجدناها في حالة فظيعة من الذعر و الخوف ... و تصرخ " وليد ... وليد ..."
تلت ذلك مرات و مرات و حالات و حالات من الذعر و الفزع و الانهيار التي أودت بصحة الصغيرة لأسابيع ... في كل يوم ، بل كل ساعة ، تقوم رغد بالاتصال بهاتف وليد لكن دون جدوى
" لقد قال انه سينتظر اتصالي كل يوم "
لقد كانت تعتقد أنه سافر ..
" أنا وفيت بوعدي ... يجب أن يفي بوعده "
و الكثير من الهلاوس و الوساوس ... و التصرفات الغير طبيعية التي صدرت منها ...
و بدلا من أن تكبر ... أظنها صغرت و عادت للوراء ست سنين ، أي كما جاءتنا أول مرة ... بكاء مستمر ، و خوف لا مبرر له ، تشبث جنوني بأمي ، حتى في النوم .
رفضت الذهاب للمدرسة أول الأيام ، كثيرا ما كانت تدخل غرفة وليد و تستلقي على سريرة و تبدأ بالبكاء ثم الصراخ ، حتى اضطرت والدتي لقفل تلك الغرفة لحين إشعار آخر ...
توالت الأيام ، و بدأت حالتها تهدأ شيئا فشيئا ، و تعتاد فكرة أن وليد لم يعد موجودا ، و أنه سيعود بعد زمن طويل ...
أما تذاكر اللعب ، فحين أردت أخذها ذات مرة لتلهو في الحديقة ، رفضت ... و قالت :
" سأذهب مع وليد حينما يعود "
و أما الساعة ، فلا تزال تحتفظ بها بين أشيائها النفيسة ...
" سأعيدها لوليد حين يعود "
لأنه نقل إلى سجن العاصمة ، فإننا لاقينا بعض الصعوبات في زيارته ، خصوصا و أوضاع البلد تدهورت كثيرا و الحرب اشتدت و الدمار حل و انتشر و حطّم ما حطم من المباني و الأراضي و الشوارع ... و كل شيء ، و اضطررنا لترك منزلنا و الانتقال لمدينة أخرى ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد في السجن .
في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية
أو المتهمين بها ظلما .
كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام .
تعرفت على ( زميل ) يدعى نديم . نديم هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة ...
" و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ "
سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث ؟؟
أجابني :
" ليس لدي الكثير من الأقارب ، ألا أنني اعتقد أنهما ستلجأان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل
و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد عمّار الذي قتلته !
الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى عمّار ...
و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك .
لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة ...
و أي مر ؟؟ أي عذاب ؟ أي ضياع ...؟؟
في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة ...
اغمض عيني ّ و أفكر ... و أتذكر ... و أبكي ...
أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما ...
هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي ... هذه أمي ... هذا شقيقي سامر ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم ... و هذه دانة ... بظفيرتيها المتدليتين على كتفيها ... و هذه ... هذه ... من هذه ؟؟ إنها دنياي ... حبيبتي الصغيرة المدللة ... طفلتي الغالية ... نبضة قلبي ... رغد تقف إلى جانبي ممسكة برجلي ... كانت تريد مني أن أحملها ألا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري ...
و في هذه الصورة ... مع دفتر تلوينها ...
ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم ... كم أحب أن أمسح على رأسها ... ما أنعم هذا الملمس ...
مسحت بيدي ... شعرت بخشونة ... خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه ... خشونة الواقع الذي أعيشه ...
رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي ...
و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير ...
صرخت ...
صرخت فجأة رغما عني ...
" رغد ... أعيدوني إلى رغد ... أخرجوني من هنا ... "
في الصباح ... أنهض عن سريري بكل **ل و كل ملل و إحباط
فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح ... و أي فطور ...
عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر ...
و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى إنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا ...
و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه ... تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير ... لا مدرسة أذهب إليها ... لا رفاق أتصل بهم ... لا أهل أتبادل الأحاديث معهم ... و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم ... و لا رغد تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :
" وليــــــــــد ... لوّن معي ! "
آه يا رغد ...
ما الذي تفعلينه الآن ؟
ما الذي فعلته بعد غيابي ؟
هل يعتنون بك جيدا ؟؟
رغد ...
أكاد أموت شوقا إليك ...
ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ....
" أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا .. "
لو لم يكن نديم موجودا ، أظن ... أنني كنت سأصاب بالجنون .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
اليوم سيأتي أهلي لزيارتي حسب الاتفاق .
في مثل هذا اليوم أكون أنا محلقا في السماء و في حالة توتر مستمرة ...
أهلي بعد أن كانوا يزورونني 3 مرات في الأسبوع ، اقتصروا على واحدة بسبب صعوبة الحضور و مشقة المشوار ...
أذرع الغرفة ذهابا و إيابا في توتر شديد ... منتظرا لحظة مجيئهم .
" ما بك يا وليد ! اجلس ! ألم تتبع من المشي ذهابا و عودة ؟ لقد أصبتني بالدوار ! "
" لا أستطيع التوقف يا نديم ... والداي و أخي سامر سيحضرون في أية لحظة ! أنا مشتاق لهم كثيرا جدا "
" على الأقل ... أنت لديك من يزورك ! أما أنا فلا علم لي بحال زوجتي و ابنتي ... ربما أصابهما مكروه "
التفت إلى نديم و أنا مندهش من صبر هذا الرجل و قدرته على التحمل ... من هذا الرجل العظيم ، تعلّمت أشياء كثيرة ... و أدين له بالكثير ...
قلت : " لا بد أنهما لم تحصلا على تصريح لزيارتك ... خصوصا و أنت ( مجرم سياسي ) و يخشى منك ! "
ابتسم نديم ، و قال مازحا :
" نعم ! فأنا ألعب بمصير دولة و شعب كامل ، لا رجل واحد ! لم لا تعمل معي بعد خروجنا من هنا ؟ "
" بعد خروجي من هنا ، فإن آخر شيء أفكر به هو العودة ! أبقني بعيدا عن السياسة و الدولة و الشعب ... إنني فقط أريد العودة إلى أهلي ... "
نعم ، فمن يجرّب عيشة كهذه لا يمكن أن يسلك طريقا قد يعيده إليها .
هنا ، فُتح الباب ، فاقشعر بدني و تأهبَت أذناي لسماع ما سيقوله الحارس ... ربما جاء دوري للزيارة ...
وقفنا جميعا ، أنا و نديم و جميع من كان معنا لدى سماعنا جلبة و ضوضاء قادمة من ناحية الباب ، و من ثم رؤيتنا للحراس و الضباط يدخِلون ثلاثة من الرجال المكبلين بالحديد إلى داخل السجن ، و يدفعون بهم دفعا و ينهالون عليهم بالضرب العنيف ...
لقد كان مشهدا مريعا هزّ قلوبنا جميعا ، و حين قاوم أحدهم رجال الشرطة و حاول مهاجمته ، رُمي بالرصاص ... و خر صريعا .
حمل بعض الحراس الجثة و أبعدوها خارج الزنزانة ، فيما واصل بعضهم ضرب الرجلين الآخرين حتى أفقدوهما الوعي ...
كان منظرا فظيعا جفلت أفئدتنا و اكفهرت وجوهنا لدى رؤيته ...
ترك الضباط و الحراس السجينين الجديدين ، و غادروا .
وقفت جامدا في مكاني لا أقوى على الحراك ، بعد أن كنت في قمة النشاط و الحركة ، أجول بالغرفة دون سكون ....
اقترب بعض الزملاء من الرجلين و حملوهما إلى سريرين متجاورين ، و اعتنوا بهما حتى أفاق أحدهما ، و علمنا منه أنهم ـ أي الثلاثة ـ ( متهمون بجرائم سياسية ) و محكوم عليهم بالإعدام .
أخبرنا المجرم الجديد هذا عن الأوضاع التي ازدادت تدهورا بشكل كبير جدا ، و أنه تم القبض على مجموعة كبيرة جدا من الشبان بتهم سياسية مختلفة و زج بهم في السجون ، في انتظار حكم الموت ، و أن عدد القتلى من جنود الحرب و كذلك من عامة الناس في ازدياد مطرد ، و أن الحرب حامية الوطيس و المقابر ممتلئة و الفوضى تعم البلاد ...
بقيت واقفا عند الباب أنتظر ... الوقت يمر و أهلي لم يحضروا ... فهل أعاقهم شيء ؟ أم هل أصابهم مكروه لا قدّر الله ؟
نديم كان يراقبني ، و كلما التفت إليه التقت نظراتنا ، أنا في قلق ، و هو يصبّر ... و كلما التفت إلى الناحية الأخرى ، وقع بصري على الدماء المراقة على الأرض ... فأرفع بصري في ذعر نحو السقف ، فأرى مجموعة من حشرات الجدران تتجوّل بلا رادع ...
فأشعر باختناق في صدري ، و أحاول شهق نفس عميق ، فتنجذب إلى أنفي روائح كريهة مختلطة ، مزيج من روائح العرق ... و الدماء ... و الأنفاس ... و بقايا الطعام المتعفن في سلة المهملات ... و دخان السيجارة التي يدخنها الحارس خلف الباب ...
" أين والداي ؟ لماذا لم يحضرا ؟ أخرجوني من هنا ... لم أعد أحتمل ... أخرجوني من هنا ... "
انهرت و أنا ابكي كطفل أضاع والديه في متاهة ، فأقبل نديم نحوي يواسيني ، بينما أطلق مجموعة من السجناء هتافات الانزعاج و الاستياء أو السخرية مني و من بكائي و نحيبي المتكرر ...
إنني ابن العز و النعمة و الرخاء ... و قد تربيت في بيت نظيف وسط عائلة راقية محترمة ... كيف لي أن أتحمّل عيشة كهذه ، و لدهر طويل ، لمجرد أنني قتلت شخصا يستحق الموت ؟
؟؟؟؟؟
يتبـــع
تابع الحلقة السابعة
لم يحضر والداي في ذلك اليوم ، و لا اليوم الذي يليه ، و لا الأسبوع الذي يليه ، و لا الشهر الذي يليه ، و لا السنين التي تلته واحدة تلو الأخرى ....
أصبحت منقطعا بشكل نهائي عن أهلي و عن الدنيا بأسرها اعتقد أن مكروها قد ألم بهم ، و لا أستبعد أن يكونوا قتلوا في الحرب ...
الشخص الوحيد الذي حضر لزيارتي بعد عامين كان صديقي القديم سيف .
" لا أصدق أنك تذكرتني ! لا بد أنني أحلم ؟ "
قلت ذلك ، و أنا مطبق بكل قوتي على صديقي ، كمن يمسك بخيال يخشى ذهابه ...
" لم أنسك أيها العزيز ... إنني عدت للبلد بصعوبة قبل أيام ، فكما تعلم كنت مسافرا للدراسة في الخارج ... أوضاع البلد لم تسمح لي بالعودة قبل الآن "
سألته بلهفة و خوف :
" و أهلي ؟ عائلتي ؟ ما هي أخبارهم ؟؟ أما زالوا أحياء ؟ لماذا لا يزورونني ؟ "
سيف طأطأ برأسه و تنهد بمرارة ، فأغمضت عيني ّ و وضعت يدي فوقهما لأتأكد من أن الخبر المفجع لن يصلني ...
سيف ربت على كتفي و قال :
" لا علم لي بأخبارهم يا وليد ... إذ يبدو أنهم اضطروا للرحيل عن المدينة و ربما سافروا لمكان بعيد ... و لم يتمكنوا من العودة ... "
تأوهت ... و شعرت بشيء يخترق صدري فتألمت ... تهت بعيدا ... هل انتهى كل شيء ؟ أمي و أبي ... سامر و دانة ... و الحبيبة رغد ... حياتي كلها ... هل انتهى كل ذلك ..؟؟
شعر سيف بألمي فعانقني بعاطفة ملتهبة ... و قال :
" سأحاول تقصي أخبارهم يا وليد ... الدنيا في الخارج مقلوبة رأسا على عقب ... ربما تكون أنت قد نجوت بدخولك هذا السجن ! "
أبعدت سيف عني قليلا بما يسمح لأعيننا باللقاء ...
قلت :
" أريد أن أخرج من هنا ... "
أمسك سيف بيدي و شدّ عليها ... عيناه تقولان أن الأمر ليس بيده ...
قلت :
" سيف ... سيف أنت لا تعلم كم الحياة هنا سيئة ! إنهم ... إنهم يا سيف يضعون الحشرات عمدا في طعامنا و يجبروننا على قضم أظافرنا ... و المشي حفاة في دورات المياه القذرة ! سيف ... إنهم لا يوفرون لنا الأشياء الضرورية كالمناديل و شفرات الحلاقة ! أنظر كيف أبدو ؟ ألست مزريا ؟ عدا عن ذلك ، فهم يضربون و بعنف كل من يبدي استياء ً أو يتذمر ! زنزانتي يا سيف ... لا يوجد فيها فتحة غير الباب المقفل ... لا هواء و لا نور إنني مشتاق إلى الشمس ... إلى الهواء النقي ... إلى أهلي ... إلى الحياة ... إلى كل شيء حرمت منه ... أبسط الأشياء التي تجعلني أحس بأنني بشر ... مخلوق كرّمه الله ! إلى ... فرشاة أسنان نظيفة أنظّف بها أسناني ! "
و لو كنت استمررت في وصف حالي له ، لكان فقد وعيه من الذهول ... ألا أنني توقفت حين شعرت بيده ترتخي من قبضها على يدي و رأيت الدموع تتجمع في مقلتيه منذرة بالهطول ...
أغمضت عيني ّ بحسرة و أنا أتخيل و أقارن بين حياتي في البيت ، و حياتي في هذه المقبرة ... و جاء طيف رغد و احتل مخيلتي ... الآن ... أراها و هي تقول في لقائنا الأخير :
" لا ترحل ... لا تتركني "
و تتلاشى هذه الصورة ، ثم تظهر صورتها و هي مذعورة و ترتجف بين ذراعي ، ذلك اليوم المشؤوم ....
ثم تظهر صورة عمّار ، و ابتسامته الخبيثة لحظة رميه الحزام في الهواء ... " إلى الجحيم ... "
قلت دون وعي مني :
" كان يجب أن أقتله ... و لو يعود للحياة ... لقتلته ألف مرّة ... "
انتبه صديقي سيف من شروده و تخيله لحالتي الفظيعة ، قال :
" لماذا ؟ "
نظرت إله ، بصمت موحش ... فعاد يقول :
" لماذا يا وليد ؟... الذي دفعك لان ترمي بنفسك في حياة كهذه لابد أنه ...؟؟ "
و لم يتم جملته ، استدرت موليا إياه ظهري ... تماما كما استدرت حين سألني يوم الحادث .
سيف لم يصبه اليأس مني ... قال :
" أخبرني يا وليد ... فقد يكون أمرا يقلب الموازين و يخرجك من هنا بمدة أقصر ... والدي أكد لنا ذلك فيما مضى و قد يستطيع إعادة النظر في قضيتك بشكل ما ... "
بدا و كأن قلبي قد تعلّق بأمل الخروج ... و البحث عن أهلي و العودة إليهم ... و لكن ... ألم يفت الأوان ...؟؟
" وليد ... "
استدرت لأواجه سيف ... كانت نظرات الرجاء تملأ عينيه ... إنه الوحيد الذي أتى ليزورني من بين أصحابي و أهلي و الناس أجمعين ...
" لماذا وليد ...؟ "
" سيف ... "
" كنتَ على وشك الوصول لقاعة الامتحان ... ما الذي أخبرك به ، ثم أجبرك على ترك الامتحان و الذهاب إلى تلك المنطقة ؟ و بالتالي ... قتله ؟؟ "
" كان يجب أن أقتله ... "
" لماذا قل ؟ أخبرني ... "
" لأنه ... "
" أجل ..؟؟ "
" لأنه ... ... لأنه اختطف صغيرتي رغد ... و هددني بإيذائها ما لم أسرع بالحضور لتلك المنطقة ... "
أصيب سيف بالذهول ... و اتسعت حدقتا عينيه و انفغر فاه مصعوقا ...
ذات يوم ... و فيما كنا أنا و نديم و بعض شركاء الزنزانة نسلي أنفسنا باللعب بالحصى ، و هي لعبة سخيفة اخترعناها من أجل قطع الوقت الذي لا ينتهي ، و كنا نسر أو نتظاهر بالسرور أو نقنع أنفسنا به ، فتح الباب و دخل مجموعة من العساكر .
توقفنا جميعا عن اللعب ، و انسابت أنظارنا نحوهم . لم نكن نشعر بأي طمأنينة لدى دخول إي منهم ... فمجيئهم ينذر بالشر و الخطر
بدأ العساكر يجولون بأبصارهم فيما بيننا بازدراء و تقزز . ثم تقدم أوسطهم خطوة للأمام و قال :
" نديم وجيه "
و جعل ينقل بصره من واحد لآخر ...
نديم أجاب بعد برهة :
" أنا "
استدار العسكري إلى رفاقه و أومأ إليهم
تقدّم اثنان منهم و أقبلا نحو نديم ... و قالا بحدة :
" انهض "
نهض نديم ببرود ، فإذا بهما يطبقان عليه بشراسة و يقودانه نحو الباب ...
نديم سار معهما دون مقاومة ، فيما كانت أفئدتنا وجلة متوقعة شرا .
لم ينبس أحدنا ببنت شفة ، و بقينا في صمت رهيب و نحن نراقب نديم بقلق ، فيستدير هذا الأخير ليلقي علينا نظرة و يبتسم ...
خرج العساكر بنديم و أقفلوا الباب و بقينا في صمت فظيع لبضع دقائق ...
كنت أنا أول من أصدر صوتا اخترق جدار الصمت الموحش حين قلت :
" إلى أين أخذوه ؟ "
هز البقية رؤوسهم في حيرة و تساؤل ...
مضت ساعتان أو أكثر و نحن في هدوء و قلق ... في انتظار عودة نديم و بدا أنه لن يعود ..
بدأت أذرع الزنزانة ذهابا و جيئة و أنا أدعو الله ألا يكون نديم قد أعدم ...
و بينما أنا كذلك ، إذا بالباب يفتح مجددا ، و يدخل اثنان من العساكر يحملان نديم و يلقيان به أرضا ، ثم ينصرفان ...
أقبلنا بسرعة نحو نديم فإذا بالدماء تلطخ جسمه و ملابسه
و إذا بالجروح و الكدمات الملتهبة تغطي جسده ...
" نديم ! ماذا فعلوا بك ؟؟ "
صرخت في ذعر و أنا أرفع رأسه و أسنده على ركبتي ...
لم يكن نديم بقادر على الكلام من شدة الإعياء
و كان جليا لنا أنه تعرض لتعذيب شديد ...
تناوبنا جميعا في العناية به حتى بدأت الحياة تجري في عروقه .
أخبرنا فيما بعد بأنهم أوسعوه ضربا من أجل الإدلاء بمعلومات لا علم له بها ... و أنهم في طريقهم لإعدامه حتما
في اليوم التالي ، حضر العساكر أيضا ، و ما أن دخلوا السجن حتى ارتعشت قلوبنا جميعا و اشرأبت أعناقنا و تعلقت أبصارنا بهم في حالة لا توصف من الذعر
في تلك اللحظة كنت أجلس جوار نديم أنظف بعض جروحه و بلا شعور مني أمسكت بذراعه بقوة خشية أن يأخذوه ...
هتف أحدهم :
" معتز أنور "
انتفضنا جميعا ، و كان معتز ، و هو أحد زملاء الزنزانة ، و أحد مجرمي السياسة، أكثرنا انتفاضا و ذعرا
صرخ معتز بفزع :
" لا "
و تقدم العساكر نحوه ، و هو يتراجع للوراء و يداه ترتجفان و العرق يغرق جسمه الهزيل ...
تقدم العساكر بلا رحمة و أمسكوا به و هو يصرخ و يقاوم في عجز ، و قادوه خارجا .
و ما هي إلا ساعة و نصف الساعة ، حتى أعيد إلينا بحالة سيئة ، مليئا بالجروح و ال**ور أيضا .
أصبحنا نعيش حالة مستمرة من الخوف الشديد ، و لم يستطع أحدنا النوم بعدها . و أصبحنا لمجرد سماعنا لأي صوت يصدر من ناحية الباب ، يركبنا الفزع المهول
و جاء اليوم التالي ، و جاء العساكر مجددا ...
كنا جميعا متكومين قرب بعضنا البعض ، و أعيننا محدقة بهم ، و كل منا في خشية من أن يكون التالي ...
" وليد شاكر "
عندما نطق باسمي صعقت ، بل و صعق جميع من معي ...
أخذ قلبي يخفق بعنف ، و أنا أراقب العساكر يتقدمون نحوي خطوة خطوة
صرخت :
" لكنني لست على علاقة بالسياسة "
لم أكد أنهي جملتي إلا و العساكر قد أمسكوا بي ...
حاولت سحب يدي من بين أيدهم بكل ما استطاعت عضلاتي إمدادي به القوة ...
و فشلت ...
" أنا هنا لجريمة قتل ... لا شأن لي بالسياسة "
حاولت مستميتا التخلص منهم و مقاومتهم دون جدوى
قادوني عنوة نحو الباب و لم يستطع أحد زملائي النطق بكلمة واحدة
و أنا أسحب إلى الخارج نظرت إلى نديم و قلت :
" ماذا سيفعلون بي ؟ ما الذي فعلته أنا ؟ "
نديم أغمض عينيه بقوة ، في أسف و ألم و كأنه يقول : أرثي لك ، ويل لك مما ستلقى ...
و لقيت ، ما لم ألقه في حياتي مطلقا ...
لقيت
أصنافا من العذاب التي أتوجع و أتلوّى من مجرد ذكرها ...
عذابا ... ينسي المرء اسمه و جنسه
تمنيت ساعتها ، لو أن أمي لم تلدني
لو أنني قتلت نفسي يوم قتلت عمّار
لو أن الله خلقني بلا أعصاب و إحساس ...
و لا قلب ...
و لو أن الدنيا خلت من اسم العذاب
و اسم السجون
و حتى من اسم رغد ...
الأوقات الوحيدة في حياتي كلها ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تكن ... و لم توجد ...
أصبت ب**ر في أنفي جعل شكله يتغير و تظهر انحناءة صغيرة أعلاه .
بقيت ممدا على سريري بلا حراك ليومين ، كان فيها من بقى من زملائي سالما يعتني بي ، و بنديم و معتز ، و اثنين آخرين ...
بعدها بأيام ، علمنا من الحارس أن اسمي قد أدرج خطأ ضمن قائمة المجرمين السياسيين !
مجرد خطأ ... !
كان ذلك بعد عدة أشهر من زيارة سيف الأولى و قبل أشهر أخرى من زيارته التالية و التي ابتدأها بقول :
" وليد ! ماذا فعلت بأنفك !؟ "
سردت على سيف ما حصل ، و وعدني بان يتم ذكر هذا في ملفي .
عندما سألته عما جد في موضوعي أخبرني بأن والده لا يزال يدرس الأمر ،
و لدى سؤالي عن أهلي قال :
" اختفوا ! "
زاد ذلك ضيقي و إحباطي الشديدين و قضى على بقايا الأمل بالخروج من هذا المكان ...
بدأت أؤمن بأنهم قد قتلوا جميعا في الحرب ... و إن كان الأمر كذلك ، فإنني لا أرغب في الخروج ...
بل أرغب في الموت ....
أحقا لم يعد لأهلي أي وجود ؟؟
أماتوا ؟
أم تخلوا عني ؟
أم ماذا ؟؟
و رغد ؟؟
ماذا حل برغد ؟؟
في تلك الليلة ، رأيت كابوسا أفزعني ...
رغد و سامر يلهوان بالدراجة الهوائية ، ثم يهويان في حفرة مليئة بالجمر المتقد
ثم تشتعل النيران و تكبر ، و تحرق منزلنا ...
و آتي صارخا أحاول إخراج رغد من الحفرة ...
و أمد يدي فإذا بي أخرج حزاما طويلا تأكله النيران ...
و أقرب وجهي من الحفرة ، فإذا بي أرى وجه عمّار في الداخل ، يبتسم ثم يقهقه
و أسمع صراخا يدوي السماء
صراخ رغد ...
" و ليـــــــــد ... أنا خائفة ... تعال "
أفقت من نومي مذعورا ، و العرق يبلل ملابسي و فراشي ، كما تبلل الدموع وجهي المفزوع ...
كنت أرتجف ، و أتنفس بصعوبة بالغة ... و بلا إدراك اهتف
" رغد ... رغد "
صديقي نديم أقبل نحوي و أخذ يهدئني و يطمئنني ...
" هوّن عليك يا وليد ... لم يكن إلا كابوسا "
لم أشعر بنفسي و أنا ارتمي على صدر نديم و أبكي بقوة و أهذي ...
" أريد العودة لأهلي ... دعوني أراهم و لو مرة واحدة ثم اقتلوني ... لا أريد الموت قبل ذلك ... أريد أن أحقق أحلامي ...
أريد أن أكمل دراستي ...
أريد العودة إلى رغد ...
كان يجب أن أقتله ...
انتظريني يا رغد فأنا قادم ... "
و نهضت كالمجنون ... و توجهت نحو الباب و أخذت أضربه بعنف و أصرخ :
" أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا أيها الأوغاد "
لحق بي نديم ليمنعني من إثارة مشكلة ألا أنني أبعدته عني بركلة قوية من رجلي ... و ظللت أركل الباب بشدة و أنا مستمر في الصراخ ...
حضر مجموعة من الحراس و فتحوا الباب ، ثم انهالوا علي ضربا بعصيهم حتى شلوا حركتي ... و انصرفوا ...
لم يجرؤ أحد السجناء على فعل شيء حتى لا يلقى ذات المصير
و منع عني الطعام في اليوم التالي
تدهورت صحتي الجسدية و النفسية بشدة بعد تلك الليلة ، و قضيت عدة أسابيع طريح الفراش ...
و ربما هذا ما منع العساكر من تطبيق نظام التعذيب اليومي على جسدي ...
إلا إن أدركوا أنهم كانوا مخطئين !
جسدي ، و الذي كان ضخما و قويا ، تحول إلى عظام متراكمة فوق بعضها البعض بلا حول و لا قوة ...
بعد فترة وجيزة ، صدر قرار يمنع زيارة السجناء ، و لم يعد سيف للظهور مجددا
و انتهى أملي الوهمي بالخروج من هنا ....
و استسلمت أخيرا لحياة السجون ....
حاولت أن أصف لكم بعض الذي قاسيته في ذلك السجن الذي قضيت فيه فترة شبابي اليافع ... و التي ضاعت سدا ...
فترة جافة قاسية أ**بتني جفافا و خشونة لم أولد بهما و لم أتربى عليهما و غيرت في بعض طباعي ، و بدأت أدخن السجائر
كان الحارس يتصدق علينا بسيجارة واحدة ، ندور بها فيما بين شفاهنا جميعا ...
و تقتسم همومنا و نقتسم سمومها ....
و مر عام آخر ...
و أكثر ...
ألمّ المرض بصديقي نديم من جراء التعذيب المستمر ...
كان على فراشه ، و كنت اعتني بجروحه و إصاباته التي لم شملت حتى أطراف أصابعه ...
" وليد .. "
" نعم يا عزيزي ؟ "
" يجب أن تخرج من هنا ... "
قال نديم ذلك ثم رفع يده و مسح على رأسي ، ثم وضعها فوق كتفي .
" يجب أن تخرج من هنا يا وليد و إلا لقيت حتفك "
" إنني هالك لا محالة ... لا جدوى و لا أجمل ... "
" افعل شيئا يا وليد و غادر هذا المكان ... إنك لا زلت شابا صغيرا ... "
كنت الأصغر سنا بين الجميع ، و أكثرهم تذمرا و شكوى ، و بكاءا ، ألا أنني هدأت و استسلمت لما فرضته الأقدار علي ... و لم يعد الأمر يفرق معي ...
ابتسمت ابتسامة استهتار و سخرية ، و يأس ...
نديم كان ينظر إلي بعين عطف شديد و محبة أخوية ... قال :
" اسمعني يا وليد ... لدي مزرعة في المدينة الشمالية ، حيث كنت أعيش مع ابنتي و زوجتي ... متى ما خرجت من هنا ... فاذهب إليهما و أخبرهما بأنني كنت أفتقدهما كثيرا و أنني بقيت على أمل العودة إليهما دون يأس لآخر لحظة في حياتي ... "
" نديم ... "
قاطعني قائلا :
" لا تنس ذلك يا وليد ... و إن احتاجتا مساعدة منك ... فأرجوك ... ابذل ما باستطاعتك "
أقلقتني الطريقة التي كان نديم يتحدث بها ، هززت رأسي و قلت :
" لماذا تقول ذلك يا نديم ...؟ "
و انتظرت أن يجيب
لكنه لم يجب ...
و تحركت يده الممدودة على كتفي ، ثم هوت للأسفل ... و ارتطمت بالفراش ... و سكنت سكون الموت ...
إنا لله ... و إنا إليه راجعون ....
بعد سنتين من ذلك ...
و في أحد الأيام ...
و فيما أنا مضطجع على سريري ب**ل و عدم إكتراث ، أدخن بقايا السيجارة
بلا مبالاة ، و انظر إلى السقف و أرى الحشرات تتجول دون أن يثير ذلك أي اهتمام لدي ...
إذا بالباب يفتح ، ثم يدخل بعض الضباط
معظم زملائي وقفوا في قلق ...
أما أنا ، فلم أحرك ساكنا ... و بقيت أراقب سحابة الدخان التي نفثتها من صدري ترتفع للأعلى ... و تتلاشى ...
" وليد شاكر "
هتف أحد الضباط ...
فقمت بتململ و التفت إليه ببرود
لم يعد يهمني إن كان لدي أي درس جديد في الضرب أو غيره ...
عاد الضابط يهتف بحدّة :
" وليد شاكر "
نهضت عن فراشي و وقفت ازاء الضباط و أجبت بضجر :
" نعم ؟ "
و أقبل بعضهم نحوي ، فرميت بالسيجارة أرضا و سحقتها باستسلام ...
أمسكوا بي و قادوني نحو الباب ، فسرت بخضوع تام ...
عندما صرت أمام الضابط الذي ناداني ، رمقني بنظرة احتقار شديدة
و هي نظرة قد اعتدت عليها و لم تعد تؤثر بشعوري ...
قال :
" وليد شاكر ؟ "
أجبت :
" نعم أنا ، و لا علاقة لي بالسياسة ، أرجو أن تتاكد من ذلك جيدا "
رفع الضابط يده و صفعني على وجهي صفعة قوية كادت ت**ر فكي ...
ثم قال :
" هذه تذكار "
التفت إلى زملائي و عيني تقدح بالشر ، و قابلتني نظراتهم بالتحذير ...
اسمي رغد ، و أنا يتيمة الأبوين أعيش في بيت عمّي الوحيد شاكر منذ الطفولة .
أنهيت دراستي الثانوية مؤخرا و أفكر في الالتحاق بكلية للفنون و الرسم . أعشق الرسم كثيرا و أنا ماهرة فيه .
الجميع يعرفني برغد المدللة ، حيث أنني تعودت منذ الصغر الحصول على كل ما أريد ، و بأي طريقة !
اليوم نقيم في منزلنا الصغير حفلة متواضعة بمناسبة تخرجي من المدرسة الثانوية . لم يتسن لنا إقامتها قبل الآن لأن والدتي ـ أي زوجة عمي ـ كانت متوعكة الصحة .
في الواقع ، صحة والدتي ليست على ما يرام منذ سنين ...
دانه تبالغ في وضع المساحيق لتبدو ملفتة للنظر !
رغم أنها لم تكن ترحب بفكرة الحفلة ، إذ أننا لم نقم حفلة عند تخرجها ، ألا أنها مصرة على سرقة الأضواء مني هذه الليلة !
" إنها حفلة بسيطة و لا تقتض منك كل هذا ! تبدين كعروس بكامل زينتها ! "
قلت لها و أنا واقفة أراقبها و هي ( مزروعة ) أمام المرآة منذ ساعات !
لم تلتفت إلي ، و قالت :
" ما دمنا قد دعوناهن، فلنبهرهن ! قد تعجب بي إحداهن فتخطبي لأخيها مثلا ! "
و ابتسمت بدهاء !
أنا أعرف من تقصد تحديدا ... لديها صديقة من عائلة ثرية جدا و شقيقها رجل تحلم نصف فتيات العالم بالزواج منه ، أما النصف الآخر فيبغضه بشدة !
إنه لاعب كرة قدم مشهور و صوره تملأ الصحف و المجلات و برامج التلفاز أيضا!
قلت :
" لا أعرف ما الذي يعجبكن في شخصية كهذه ! إنه حتى لا يتوقف عن توزيع الضحك و الابتسامات و كأنه مهرج ! "
نظرت إلي بحدة من خلال المرآة ، ثم قالت :
" على كل ٍ ، الأمر لا يعنيك فأنت أخذت نصيبك و انتهى دورك ! "
ثم انشغلت بتزيين خصلة من شعرها بسائل ملمّع ...
صرفت نظري عنها ، إلى يدي اليمنى ، بالتحديد إلى إصبعي البنصر ، و بمعنى أدق ، إلى خاتم الخطوبة الذي أضعه منذ سنين ...
بمجرد أن بلغت الرابعة عشر من عمري أي قبل ثلاث سنوات و أكثر ، تم عقد قراني على ابن عمي سامر ...
و بقينا مخطوبين حتى إشعار آخر .
سامر ... يكبرني بخمس سنوات تقريبا ، و ما أن تخرج من الثانوية حتى بادر بطلب الزواج مني
والدي ، بل و والدتي و دانة أيضا ... الجميع كان يريد ذلك ، فأنا أصبحت فتاة بالغة و لم يكن من الممكن بقائي و ابن عمي في بيت واحد دون حرج على كلينا
عدا عن ذلك ، فإن سامر يحبني بجنون !
كما و أنني كنت السبب في الحادث الذي شوه وجهه ، و قلل فرصه لنيل إعجاب الفتيات قطعا
أما أنا ، و بالرغم من كوني جميلة أيضا ، ألا أن هذا الخاتم يصرف الجميع عن الالتفات إلي ...
على أية حال نحن لا نفكر في الزواج الآن فسامر لا يزال يبحث عن وظيفة و أنا أطمح إلى الحصول على شهادة جامعية ...
نبهتني دانة من شرودي الذي لاحظته من خلال انقطاعي عن التعليق المستمر على مظهرها
قالت :
" أين سرحت ؟ ألن تبدلي ملابسك ؟ إنهن على وشك الوصول ! "
غادرت غرفتها و اتجهت إلى غرفتي ، حيث ارتديت فستاني الجديد الرائع ... و الذي أضطر والدي لشرائه لي رغم ارتفاع ثمنه ، فقط لأنني قلت : أريده لي !
كان فستانا خمري اللون مطرزا بخيوط ذهبية ، طويل الذيل ، و بدون كمّين ، مما يسمح للندبة القديمة في ذراعي اليسرى بالظهور ...
أكملت زينتي و تحليت بطقم العقد الذهبي الذي أهدتني إياه والدتي قبل أيام ...
حينما لففت السوار حول معصمي الأيسر ، لم يبدُ منظره متناسقا مع الساعة ...
إذ أن السوار ذهبي بينما الساعة فضية اللون ...
هممت بخلعها ، لكنني لم أستطع ... لا أريد أن أبقيها بعيدة عني في هذه الليلة ...
لطالما كانت قريبة مني و ملتصقة بي ...
لم أكن آبه لتعليقات زميلاتي المزعجة حول ارتدائي لساعة رجالية !
إنها شيء لا أستطيع التخلص منه ... تماما كهذه الندبة !
نزعت السوار الذهبي ، و حاولت لفه حول معصمي الأيمن ففشلت !
" سحقا ! "
صحت بغضب ، في ذات اللحظة الذي طرق فيها الباب ...
لابد أنها دانه جاءت تقارن بين مظهرينا كالعادة !
" ادخل "
قلت ذلك و أنا مازلت أحاول إغلاق السوار بيدي اليسرى حول معصمي الأيمن دون جدوى
" مساء الخير ! "
لم يكن هذا صوت دانه ، بل سامر
رفعت بصري إليه و باندفاع قلت :
" سامر ، هل لا أغلقت هذه قبل أن أحطمها ؟ "
و أقبلت نحوه أمد إليه بمعصمي الأيمن و بالسوار ...
" رويدك ! هاتي .. "
و أغلق السوار حول يدي اليمنى ، فسحبتها ألا أنه أمسك بها و قال :
" تبدين رائعة ! جدا "
تورد خداي خجلا .. ثم قلت :
" مساء النور ... ! هل قلت ُ ذلك ؟ "
ابتسم ، و قال :
" لا أظن ! "
" إذن مساء النور ! "
ثم سحبت يدي فأطلقها
توجهت إلى سريري ألملم الأشياء التي بعثرتها أثناء تزيين نفسي ، و دخل سامر و أغلق الباب ...
" رغد "
ناداني بصوت مرح و بابتسامة مشرقة ، و سعادة تملأ عينيه
" نعم ؟ "
أقبل نحوي ، و عاد يمسك بيدي و قال :
" لدي خبر سار جدا "
ابتسمت و قلت :
" هات ؟ "
" لقد عثرت على فرصة ذهبية للعمل في وظيفة مرموقة "
فرحت كثيرا ! قلت بسرور :
" حقا ! أوه أخيرا ... ممتاز ! "
شد سامر قبضته على يدي و قال منفعلا :
" أخيرا ! كم أنا سعيد و لا يتسع صدري لفرحتي هذه ! سأحصل على راتب عظيم ! "
بالنسبة لنا فهذا شيء مهم جدا ، لأن أحوالنا المادية كانت في انحطاط بسبب ظروف الحرب ، و كنا بحاجة لدعم مادي جيد .
قلت :
" متى تباشر العمل ؟ "
" حالما أنهي الإجراءات اللازمة . سأحاول إتمامها خلال يومين أو ثلاثة "
" وفقك الله "
قرب سامر يدي من صدره ، و قال :
" يجب أن نحدد موعد الزواج "
تفاجأت ، فنحن لم نتحدث عن الزواج بجدية بعد ...
حالما رأى سامر علامات التعجب ظاهرة على وجهي قال :
" عملي سيكون في مدينة أخرى ، و أريد أخذك معي "
سحبت يدي مجددا ، في توتر ..
فالخبر قد فاجأني ، و لم يعجبني ... قلت :
" في مدينة أخرى ؟ ... لم عليك الذهاب لمدينة أخرى ؟ "
قال :
" تعرفين كم هو صعب العثور على وظيفة جيدة بسبب ظروف البلد ... إنها فرصة لا يمكنني رفضها مطلقا . أخبرت والدي ّ فشجعا ذهابي "
صرفت نظري عنه إلى الأرض بضع ثوان ، ثم عدت أنظر إليه و قلت :
" و شجعا زواجنا ؟ "
ابتسم ، و قال :
" لم أذكر ذلك لهما بعد . أود أن نناقش الأمر نحن أولا "
من البرود الذي اعترى تعابيري أدرك سامر عدم موافقتي ، فقال :
" لم لا ؟ "
قلت :
" و الكلية ؟؟ "
قال :
" الكلية ... هل هناك ضرورة لها ؟ "
" بالطبع ... أريد أن أدرس ، إنها فرصتي "
صمت سامر قليلا ، ثم قال :
" اصرفي نظر عنها يا رغد أرجوك ... أنا لا أريد تضييع الفرصة ، كما لا أريد العيش وحيدا هناك ... تعلمين أنني لا أستطيع الابتعاد عنك ... "
و أخذ ينظر إلى نظرات رجاء و أمل ...
كنت على وشك قول : لنؤجل النقاش في الأمر لوقت أنسب لأن ضيفاتي على وشك الوصول
ألا أن طرق الباب سبقني ، و دخلت دانة مباشرة و هي تقول :
" رغد ! ألم تنتهي ؟ وصلت نهلة ! "
التفتنا أنا و سامر نحو دانة ، و التي أخذت تحدق بي قليلا ثم التفتت إلى سامر و قالت :
" أنت هنا سامر ؟ قل لي كيف أبدو ؟ أليس فستاني أكثر جمالا من فستان رغد ؟ "
سامر أخذ يدور ببصره بيننا ثم قال مداعبا :
" أنا لا أصلح للحكم بين خطيبتي و أختي ! فخطيبتي ستبدو أجمل في كل مرة ! "
ثم انصرف مسرعا و هو يضحك .
بقينا نحن الاثنتان كل منا تتأمل الأخرى ، حتى وقعت عينا دانه على ساعة يدي ، فقالت بحدة :
" رغد ! ستبدين في منتهى السخافة هكذا ! اخلعيها و لا تحرجينا أمامهن ! "
نظرت إليها بغضب و قلت بعناد :
" لن أخلعها ، و سأظل الأجمل أيضا ! "
في غرفة الضيوف حيث نقيم الحفلة ، وجدت نهلة و سارة ، ابنتا خالتي قد وصلتا و كانتا أول من حضر .
" واو ! فستان رائع ! ما أجمله يا رغد ! "
قالت نهلة و هي تبعد يدها بعد مصافحتي ...
نهلة كانت صديقة طفولتي الأولى ، و انتقلت مع عائلتها للعيش في هذه المدينة مثلنا أيضا منذ سنين ، و لا تزال أفضل صديقة لدي .
أما سارة فهي الشقيقة الوحيدة لنهلة ، و تصغرني بست سنوات ، و تلازم نهلة كالظل !
" هل أعجبك حقا ؟ اشتراه والدي بسعر مرتفع ! إنني أعامله كأي قطعة من حليي هذه ! "
ابتسمت نهلة و قالت :
" كم أحسدك ! لديك أب يدللك كما لا يدلل والد ابنته ! رغم أنك لست ابنته الحقيقية ! "
هذه الكلمة تزعجني كثيرا ، فأنا لا أحب أن يشير أحد إلى والدي ّ بأنهما ليسا والدي ّ الحقيقيين . إنني اعتبرتهما كذلك منذ الصغر و لا أعرف والدين غيرهما مطلقا .
قلت بنبرة مازحة :
" لأنني البنت الصغرى ، و آخر العنقود ... يجب أن أتدلل ! "
ثم نظرت إلى سارة و قلت :
" أليس كذلك سارة ؟ "
أجابت ببرود :
" كما تقول أختي "
رفعت نظري عن هذه الفتاة البليدة ، و عدت أخاطب نهلة :
" و كيف حال خالتي و زوج خالتي ؟ و حسام ؟ "
أجابت :
" بخير جميعا ! حسام أوصلنا إلى هنا و أظنه يلقي التحية على والدك الآن "
ثم أضافت ، و هي تنظر إلي من زاوية عينها بخبث :
" و على فكرة ، هو يبعث إليك أيضا بتحية حارة مشتعلة !! "
رفعت إصبعي السبابة الأيمن و ضربت جبينها ضربة خفيفة و أنا أقول :
" لا تتوبين ! "
و انبعث ضحكاتنا تملأ الأجواء .
ما إن حضرت صديقتنا الثرية حتى استقبلتها دانه استقبالا حميما ، و أولتها اهتماما مركزا طوال الحفلة !
أتساءل ... هل هذا ما يحدث مع جميع الفتيات !
هل يجذبن العرسان إليهن بهذه الطريقة ؟؟
حقيقة لا أعرف !
بينما كنا في أحاديثنا المتواصلة في الحفلة ، سألتني هذه الصديقة :
" هل أنت مخطوبة ! "
و كانت تنظر إلى خاتم الخطوبة المطوق لإصبعي ، و في دهشة واضحة !
تولت دانة الإجابة بسرعة :
" ألم أخبرك مسبقا ؟ إنها و شقيقي مرتبطان منذ زمن ! "
قالت الصديقة :
" و لكن ... تبدين صغيرة ! "
و مرة أخرى تدخلت دانة قائلة :
" تصغرني بعامين و بضعة أشهر ، لكن حجمها صغير ! "
صحيح أن طولي لا يقارن بطول دانه أو سامر ، لكنني لست قصيرة ! بل هما الطويلان كما هما أبي و أمي !
إنني أبدو بالفعل لست من هذه العائلة !
قلت مداعبة :
" هذا يجعلني قادرة على ارتداء الأحذية الأنيقة ذات الكعب العالي المتماشية مع الموضة ! على الع** من دانة ! "
و ضحكنا جميعا بمرح ...
قضينا سهرة ممتعة أنستني تماما موضوع سامر الأخير .
و بعد الحفلة ، أويت إلى فراشي مباشرة و نمت بسرعة ، دون أن يخطر الموضوع ببالي .
في اليوم التالي ، و فيما أنا منشغلة برسم لوحة جديدة في غرفتي ، جاءني سامر ...
" ألم تتعبي ؟ قضيت فترة طويلة في الرسم ! "
" الرسم لا يتعبني مطلقا يا سامر ، بل أهواه و أجد راحة كبرى أثنائه و سعادة غامرة لا أجدها مع أي شيء آخر "
قال :
" و لا حتى معي أنا ؟؟ "
كان سامر يقف إلى جانبي يتأمل رسمي الجديد ... و كنت أنا أدقق النظر في اللوحة و ألقي عليه نظرة بين الفينة و الأخرى
و حين نطق بجملته الأخيرة هذه ، أطلت النظر إليه ، فشعرت بالخجل و طأطأت رأسي
" رغد ... "
لم أجب ...
مد سامر يده فامسك بوجهي و رفعه للأعلى ...
قال :
" رغد ... هل فكرت بموضوعنا ؟ "
في تلك اللحظة فقط تذكرت الموضوع !
آه يا إلهي كم هي ضعيفة ذاكرتي !
سامر كان يتحدث باهتمام ... فالأمر يعني له الكثير ، و قد قضى وقتا طويلا في البحث عن عمل ...
لم أشأ أن أصيبه بخيبة بقولي : كلا
فقلت :
" لازلت أفكر ... "
سامر قال بنبرة مليئة بالرجاء :
" أرجوك يا رغد ... يجب أن أبدأ الإجراءات المطلوبة قبل أن تضيع الوظيفة "
نظرت إليه و قلت :
" ماذا لو ... عملت أنت هناك ، و أكملت دراستي أنا هنا ... ثم ... "
لم أتم جملتي ، إذ أن سامر هز رأسه اعتراضا و قال :
" لا ... إما أن نذهب سويا ... أو نبقى سويا ... "
كنت أدرك أن سامر لا يستطيع الابتعاد عنا ، كما أن علاقاته بالآخرين محدودة و كثيرا ما كان يتجنب الاجتماعات المختلفة ، ليتلافى الحرج من وجهه المشوه .
حتى أنه حين أراد إكمال دراسته ، اختار مجالا لا يدع له الفرصة للاحتكاك بالآخرين إلا نادرا
سامر ... هو شخص هادئ و مسالم ... و طيب القلب ...
قلت :
" دعنا نأخذ برأي أبي و أمي كذلك ... يجب أن تتم أنت الإجراءات الآن ، فيما نفكر بروية "
ابتسم سامر و قال :
" سأذهب الآن لإنجاز ذلك ، و أعرض الأمر على والدي ّ الليلة ! سنفاجئهما ! "
ابتسمت ابتسامة قلقة حائرة ، و تركته يذهب و واصلت رسم لوحتي ...
كنت مصرة على إنجاز تلك اللوحة بأسرع وقت ...
و في الليل ، تركت سامر يذهب إلى غرفة والدي لعرض الفكرة ، فيما بقيت في غرفتي في قلق و حيرة ... و أخذت أفكر ...
و يبدو أن كثرة التحديق في اللوحة أصابت عيني بل و جسدي بالإعياء ، فأغمضتهما و لدهشتي استسلمت للنوم !
أفقت بعد ذلك فزعة على صوت طرق متواصل على الباب ...
نهضت عن سريري بفزع ... و أصغيت إلى الهتاف ...
" رغد ... رغد افتحي ... افتحي بسرعة ! "
كانت دانة !
سرت إلى الباب بسرعة و ارتعاش و أنا في قمة القلق ...
و قبل أن أصل إليه رأيته ينفتح و تدخل دانة في انفعال ...
كانت في حالة يصعب علي وصفها ...
كان جسدها يرتعش ، و أنفاسها تتضارب و تتلاحق بسرعة عبر فيها المفغور ... ذراعاها مفتوحتين ... و يداها مرفوعتين
و أصابعها منفرجة ، و تهتز بشدة ...
و الدموع تنهمر بغزارة على خديها
قلت في هلع و أنا أرفع يدي إلى قلبي من الذعر :
" دانه ... ماذا حدث ؟؟ "
" رغد ... رغد ... "
و عادت تلهث ...
" رغد ... رغد ... أخي ... أخي ... "
تجمّدت و انحبس نفسي الأخير في صدري ...
حاولت قول : ماذا ...
ألا أنني عجزت من الذعر ...
هززت رأسي و أنا أشد الضغط بيدي على صدري فوق قلبي ، كمن يحاول حماية قلبه من تلقي صدمة ما ...
كانت دانة تحاول النطق و عجزت إلا عن إصدار أصوات مبهمة ، و أشارت إلي أن اقترب ...
خطوت خطوة نحوها و نطقت أخيرا :
" سامر ... "
هزّت دانة رأسها و قالت بصوت لا أعرف من أين خرج ...
" و ...
و ...
وليد ...
وليد عـــــــــــــــــــــــــــــاد "
للحظة ... ظللت أحدق في دانة ... في تشتت
لم أكن أعرف ... هل هذا واقع أم أحد أحلامي ... ؟
تلفت من حولي علّي أرى شيئا واضحا أكيدا بالنسبة لي ...
كل شيء كان مبهما ...
دانة عادت تقول :
" وليد قد عاد ... عاد يا رغد ... عاد "
لم تكن كلمات واضحة بالنسبة لي ... و بقيت واقفة على نفس الوضع ...
فأقبلت دانة نحوي و أمسكت بكتفي و ضغطت عليهما ...
لمجرد إحساسي بيديها على كتفي أدركت أنه ليس حلما
لم أشعر بأي شيء يتحرك في جسدي لكنني رأيت الجدران تتحرك بسرعة و الأرض تجري من تحت قدمي ّ و الطريق يقودني إلى خارج الغرفة ...
و أطير ...
أطير ...
نحو مصدر أصوات البكاء التي أسمعها منبعثة من مكان ما في المنزل ...
بالتحديد ... مدخل المنزل ...
و عند أعلى الدرجات المؤدية إلى المدخل ...
توقف الكون فجأة عن الحركة من حولي ...
و ترنحت ذراعاي إلى جانبي ّ ...
و تشبثت أنظاري بالصورة التي ظهرت أمامي ...
و تمركزت فوق العينين السوداوين اللتين تعلوان الرأس العريض الثابت فوق ذلك الجسد الطويل ....
ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟
" حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز "
قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...
و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !
قلت :
" عدا عن **ر بسيط في الأنف ! "
و ضحكنا !
قلت :
" فعلها والدك ؟ "
ابتسم و قال مداعبا :
" والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "
" بعشر سنين من عمري أهديها لك !"
ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
الطريق ...
الشارع ...
الأشجار
كل شيء يتحرك ...
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...
8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال
بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ...
كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...
" وصلنا ! انهض عزيزي "
لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، ألا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...
" وصلنا ! إلى أين ؟ "
قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...
قال سيف :
" إنه منزلي يا وليد "
حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :
" خذني إلى منزلي رجاءا ! "
سيف علاه شيء من الحزن و قال :
" كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "
قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !
" أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "
قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، ألا أن سيف ضحك و قال :
" هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "
رفعت بصري إليه و قلت :
" لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "
هز سيف رأسه و قال :
" انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "
هل انتهى حقا ... ؟؟
رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...
رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
سمعت صوت نديم يناديني ...
" انهض يا وليد ، جاء دورك "
كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...
هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ...
لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...
" وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "
كان صديقي سيف يقف إلى جانبي ...
قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :
" أنت وليد ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "
سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :
" عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "
خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :
" سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "
الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ
بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
لم يفتحه أحد ...
جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد
لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ...
نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !
" وليد ! ما الذي تفعله !؟ "
أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :
" سأفتح الباب ، انتظرني "
و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف ...
" و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "
بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !
قلت :
" سترى ! "
و انطلقت نحو الحديقة ...
لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ...
انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ...
أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
وقعت أنظاري على أدوات الشي التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
توجهت إليها و أخذت احفر الرمال ...
" ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "
و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !
تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :
" عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "
و ضحكنا ...
كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ...
و أخيرا دخلت المنزل
للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ...
تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ...
عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ...
صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...
" تبا ! "
توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ...
كانت هي الأخرى مقفلة
أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ...
أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ...
عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار ...
جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ...
" أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... "
أغمضت عيني و تخيلت ...
تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ...
على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ...
و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !
" أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... "
كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ...
و أتوهم سماع أصواتهم ...
لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و وليد وحيدا تائها ...
هل تخلوا عني ؟؟
هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ...
ثم يرحلون ...
أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ...
أبي ...
أمي ...
سامر ...
دانه ...
رغد ...
لقد عدت !
أين أنتم ؟؟
أجيبوا أرجوكم ...
سيف ظل واقفا يراقب عن بعد ...
كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ...
من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية
و حين فتحتها وجدت التالي :
( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )
لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !
" وليد !! ماذا دهاك ؟؟ "
نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :
" إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ "
و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !
سيف قال :
" عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! "
و ضحكنا من جديد .
و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ...
لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ...
كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
إنني لمجرد روية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ...
لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ...
و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ...
رغد ...
رغد ...
أنا قادم إليك أخيرا ...
قادم أخيرا ...
وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال
لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ...
" ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! "
تنهد سيف و قال :
" يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ "
" أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! "
ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :
" صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! "
لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ...
لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ...
عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :
" تفضل حصتك ! "
هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ...
أسندت رأسي على المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ...
" أ أنت بخير ؟؟ "
سألني سيف ، فأجبت :
" صداع شديد "
" خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! "
و هززت رأسي مجددا ...
ثم التفت إليه و قلت :
" هل لي ببعض المال ؟؟ "
أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ...
ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ...
" وليد ! "
تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :
" أ أنت بخير ؟؟ "
" دوار ... "
أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :
" اشرب قليلا "
رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ...
بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :
" هل لي بعلبة سجائر ؟ "
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبي وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ...
سأل سيف الرجل :
" أ أنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبي وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟"
" نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! "
لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
تبادلنا أنا و سيف النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ...
" هيا يا وليد ... "
بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض
" وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! "
قلت بسرعة :
" لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... "
و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ...
" ما بك ؟ قلق ؟؟
" ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا "
" هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك "
كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟
في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة رغد !
ربما هم نيام الآن !
لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ....
كم أنا مشتاق إليكم جميعا ...
إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم !
يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ...
أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ...
ثم ثبت أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون ...
رغد ...
يا حلوتي الصغيرة ...
ها أنا قد عدت ...
" دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! "
قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل ...
قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ...
و لكن الباب انفتح أخيرا ...
و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بلا لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سامر ....
" سامر ... يا أخي ! "
دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ...
تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟
لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدماء ...
والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى و لم يعد هناك مجال للكلمات ...
لا أستطيع وصف المزيد
أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو دانة
كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة !
فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ...
و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ...
لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ...
" رغد ؟؟ "
هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ...
كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه ... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ... لا ... بل لسبقتها ...
الآن ستظهر رغد !
هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ...
هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ...
هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ...
ستأتي رغد ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ...
هيا يا رغد ... اظهري ... تعالي ... أسرعي إلي ...
و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات ....
كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... فما فيهم قلبي المزلزل ...
توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ...
و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها
هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ...
وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد ... و لم تكن رغد ...
كنت انتظر أن تظهر رغد ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول : وليـــد ... احملني !
لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ...
أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ...
أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :
" و ... لـ ... يــ ... ــد ؟؟؟ "
ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف
" وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد "
الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ...
لقد كنت أنا المحور
و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ...
بسرعة ...
بسرعة ...
كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
أما رغد ...
صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
بل اخترقته ...
لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ...
لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ...
لذلك اليوم المشؤوم ...
لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ...
فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد ...
لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ...
ألا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار
أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها رغد ...
رغم أنها كبرت ألا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...
" رغد ! صغيرتي ! "
لقد عشت لأراك ثانية ...
و نجوت لأعود إليك ...
" آه "
أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ...
أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ...
لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت
" لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "
ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :
" أنا متعب جدا "
و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف ...
لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟
قلت :
" أين سيف ؟ "
أجاب سامر :
" غادر ... قال أنه سيأتي غدا "
و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...
عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...
أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش
و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ...
وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...
لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها
" رغد ؟ "
التفتت رغد نحوي بفزع ، إذا أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...
" أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "
أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...
قلت :
" أريد بعض الماء ... رجاءا "
رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...
" لقد ... كبرت ! "
لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...
قلت :
" لكنك لم تتغيري كثيرا ... "
رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...
قلت :
" و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "
ترددت قليلا ثم قالت :
" هل بدّلت أنفك ؟ "
ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :
" بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "
رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :
" على الع** ! "
ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...
استدرت و ناديت :
" رغد انتظري ... "
ألا أنها اختفت بسرعة !
و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !
عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ...
إنه ليس مجرد حلم ...
لقد عدت إلى أهلي أخيرا
عدت إلى رغد ...
و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ...
و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ...
و أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني ... بقيت مغمض العينين ... حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة ... ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس ! أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا ... كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بال**ل ! و الجوع أيضا ! آه ... ما أجمل العودة إلى البيت ... و الأهل ... فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟ على وجه أمي ! كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم ! جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب : أماه ! ماذا حدث ؟؟ والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت : لا لا شيء ، لا تقلق بني لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى : ماذا حدث ؟؟ هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت : لا شيء وليد ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك ثم انخرطت في البكاء ... نهضت عن سريري و أقبلت ناحتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة ... لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير وليد ! نام وليد في غرفة سامر ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة . أنا لا أستطيع أن أصدق أن وليد قد عاد ! لقد آمنت بأنه اختفى للأبد كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار ... لكنه عاد ... و بدا كالحلم ! لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل ! كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا ! البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني ... كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا ! رغد ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت دانة ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها ... ابتسمت و قلت :
ها أنا أوشك على الانتهاء دانة حدقت بوجهي قليلا ثم قالت : لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار ! انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان وليد يحبها والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر ! ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح ... و الآن هي بالتأكيد في غرفة سامر ! دانه كانت دانة تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت : نعم ؟؟ قلت : هل كان وليد يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ رفعت دانة رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :
لا أذكر ! حضّري أيا منهما قلت :
أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا دانة أرجوك رمقتني بنظرة غضب و قالت : أوه رغد قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سامر ! في طريقي إلى هناك صادفت والدي ... إلى أين ؟ استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض : أريد التحدث مع أمي ابتسم أبي و قال : إنها عند وليد ! تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سامر ، ألا أن أبي استوقفني مرة أخرى رغد التفت إليه نعم أبي ؟؟ لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه و فهمت ماذا يقصد ... انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سامر و طرقت الباب طرقا خفيفا ... سمعت صوت أمي يقول : تفضل ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل ... فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني وليد ! رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني ... أقبلت أمي ففتحت الباب رغد ! أهلا ... أهناك شيء ؟؟ قلت باضطراب : العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت : عفوا ؟!! كان باستطاعتي أن أرى وليد واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر ! هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ ابتسمت والدتي و قالت : كما تشائين ! قلت : ماذا يفضل ؟؟ و لم أجرؤ على النطق باسمه ! والدتي التفتت نحو وليد ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة ... قالت أمي : ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ ابتسم وليد و قال : البرتقال قطعا ! ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت : هل بقي شيء بعد ؟ لا ... تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير ... و السلطة عظيم ، أنا قادمة معك ثم استأذنت وليد ، و خرجت و أغلقت الباب . و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سامر هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات ... بادلانا بالتحية ثم سأل : ألم ينهض وليد ؟ قالت أمي : بلى ! استيقظ قبل قليل عظيم ! انا ذاهب إليه و ذهب سامر مسرعا ، فهبت دانة واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال : و أنا كذلك و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي : أهتمي بتحضير السلطة ! و في ثوان كانا قد اختفيا ... ماذا عني أنا ؟؟ أنا أيضا أريد أن أذهب إليه .... ! نظرت إلى أمي فقالت : أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير ...
قبل قليل ، جاءت رغد و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان ... أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل ! يبدو أنها نسيت ذلك ... لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوضا أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية ! يا ترى ... ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟ طرق الباب ، ثم دخل أخي سامر و دانة ... أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد ... قال سامر : أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا ... و شعري طويلا ... و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة ! قلت : هل أبدو مزريا ؟؟ ضحكت دانة و قالت : بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت : بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور ... ( مجرم ) ... ألست كذلك ؟؟ لكن أحدا لم يحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول : بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟ تعلمون كم يهمني معرفة ذلك ! لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت ... ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟ فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز ! نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن ... و بلاء السجن ... بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما ... رجلا يستحق الاهتمام .... حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا ! ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! ابتسمت ، ثم قلت يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! قال : أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أمي يقفان في الردهة ... ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد . عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا ! أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة ! ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة ... و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها ... أوه ! كل هذا !؟ نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت : تفضل بني بالهناء و العافية لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ ! انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها ! في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت : سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء ... اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي ... ، فيما سامر إلى يساره و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد ... فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير ... المقابل لي شاغرا ... أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة ! كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا . لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا إنها صغيرتي رغد ! محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين ... تعرفون ما تعني لي ... و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق ... إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي ! إنني أشعر بأنها تراقبني ! ليست هي فقط ... بل الجميع يراقبني إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون .... و لكن لوقت أطول ... و لكميات أكبر ! ما أشهى أطباق أمي ! كل شيء يبدو لذيذا جدا ... حتى الماء ... لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين ... و هل للماء طعم ؟؟ أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم ... السجن ... الحمد لله ... أمور كثيرة قد تحدثنا عنها ألا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا كما أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع ... و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي . و كانت رغد أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر كنت أريد أن أتحدث معها ... أسألها عما عملت في غيابي ... أمسك بيديها ... أمسح على شعرها ... أضمها إلي ... كما كنت أفعل سابقا ... فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا ... أكثر من شوقي لأي شخص آخر ... لست بحاجة لوصف المزيد فانتم تعرفون ... لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب ... لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان ... هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟ لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب... تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، ألا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير ... و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون ! قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير : رغد ... صغيرتي ... إلى أين وصلت في الدراسة ؟ رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت : أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة ! عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت : و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال ... و نقلت بصري إلى أمي ... أبي ... سامر ... و دانة ... و علامات الذهول صارخة في وجهي ... أبى قال مرتبكا : يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل نظرت إلى أمي و سامر ، فإذا بهما يتحاشان النظر إلي ... أما دانة فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه ... و رغد ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم ... شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها ... لم يبد على رغد أنها تعلم ... أنني كنت في السجن ! هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟ انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد ... لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن رغد هي التي حضرته ... بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل رغد بأمر سجني يسيطر على تفكيري ... و يتعسني ... و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي : ألا تعلم رغد بأنني ... كنت في السجن ؟؟ والدي تردد قليلا ثم أجاب : لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت ... ثم كبرت ... و دانة ... و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع ... لا أعرف كيف ستتصرف رغد حين تعلم بالأمر ... و لا حتى دانة ... الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي : هون عليك يا وليد ... نتحدث عن ذلك فيما بعد كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي ... في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي سيف لأؤكد عليه الحضور لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ ... و هو الأقرب إلى الغرفة ... لقد كان الباب مغلقا ، لذا طرقته أولا ... فتح الباب قليلا و ظهرت دانة أهلا وليد! أتريد شيئا ؟؟ أردت استخدام الهاتف ابتسمت دانة و قالت : اذهب إلى غرفة المعيشة أو الضيوف ! استغربت ، فقلت : هاتف المطبخ لا يعمل ؟ ابتسمت مجددا و قالت : بلى ! لكن رغد بالداخل ! شيء أثار جنوني ... فقبضت يدي بقوة ... و قهر بعد أن كانت رفيقتي أينما ذهبت ، أصبحت ممنوعا من الدخول إلى حيث توجد هي ... لن يستمر الوضع هكذا لأنني سأجن حتما ... لسوف أتحدث مع أبي بهذا الشأن في أقرب فرصة ... لا ... بل الآن ! و استدرت قاصدا غرفة الضيوف ألا أنني وقفت فجأة و بذهول ... حين رأيت باب المطبخ يتحرك ، و يفتح ، و يخرج سامر منه ! خرج سامر مبتسما و أغلق الباب ، و بقيت محملقا فيه بذهول ... سامر نظر إلي و ابتسم و قال : غرفة الضيوف من هنا أنا بقيت واقفا مصعوقا ... و أخيرا تحرك لساني المعقود فقلت : رغد ... بالداخل ؟؟ أجاب مبتسما : نعم ! ... لم تجلب الحجاب معها جننت ، و لم أعد قادرا على فهم شيء أو تصور شيء ! ببلاهة و اضطراب و تشتت فكر قلت ، و أنا أشير بإصبعي إلى سامر : لكن ... أنت ... ؟؟؟ سامر رفع حاجبيه و فغر فاه بابتسامة استنتاج ، كمن فهم و أدرك لتوه أمرا لم ينتبه له من قبل ... آه ! تقصد أنا ... ؟؟ نعم ... فـ... نحن ... و ضحك ضحكة خفيفة ، ثم أتم الجملة التي قضت على آخر آخر ما كان في ّ من بقايا فتات وليد : نحن ... مخطوبان !
لقد قضيت اليوم بكامله في المطبخ فبعد وجبة الغذاء العظيمة التي أعددناها صباحا ، الآن نعد وجبة عشاء من أجل وليد و صديقه الذي سيتناول العشاء في منزلنا . إنني أشعر بالتعب و أريد أن أنام ! لكن دانة لي بالمرصاد ، و كلما استرخيت قليلا طاردتني بقول : أسرعي يا رغد ! الوقت يداهمنا ! كان سامر يساعدنا و لكنه خرج قبل لحظة ، و الآن أستطيع أن أتحدث عن وليد دون حرج !! أخبريني يا دانة ، ما هو التخصص الذي درسه وليد ؟؟ دانة منهمكة في صف الفطائر في الصينية قبل أن تزج بها داخل الفرن ... قالت : أعتقد الإدارة و الاقتصاد ! صمت قليلا ثم قلت : و أي غرفة سنعد له ؟ أظنها غرفة الضيوف ! فالبيت صغير ... ألا توافقينني ؟ قالت : بلى انتظرت بضع ثوان ثم عدت أسأل : ألا يبدو أنه قد نحل كثيرا ؟ ألم يكن أضخم في السابق ؟ قالت : بلى ... كثيرا جدا ! لابد أنه لم يكن يأكل جيدا هناك قلت : أ رأيت كيف التهم البطاطا التي أعددها كلها ؟ لابد أنها أعجبته ! التفتت دانة إلي ببطء و قالت : و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! قلت مستاءة : أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال : ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! قالت : لا أعرف ! ثم التفتت إلي و قالت : و أنت !؟ من تشبهين ؟؟ صمت قليلا ، ثم قلت : ربما أمي المتوفاة ! لكنها قالت : لا ! تشبهين بل شخصا آخر ! سألت باهتمام : من ؟؟ ابتسمت بخبث و قالت : الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة ! أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا ! تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه انتظري ! وليد بالخارج أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت : صحيح ؟؟ قالت : نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها ! أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان ! و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟ لقد كان وليد ! كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب لا بد أنه رآني هكذا ... و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل ! نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول : لماذا تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ رفعت دانة حاجبيها و قالت : بلى قلت لك ! ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت : أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! قلت : شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر ... نظر مباشرة إلي و قال : ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر : نعم سأذهب ! و انطلقت مسرعة نحو غرفتي ... غير آبهة بنداءات دانة المتكررة ! بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء كم كنت متعبة ! إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة ... تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر ... ما الذي سيقوله وليد عني !؟ فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين ! إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها ! شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة ... لابد أن وجهي توهج الآن ... لم لا ألقي نظرة ! قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة ... و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيل على وجهي هذا ! أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة ! نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة ! الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة ... إنها ساعة وليد ... نسيت فكرتي الة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد ... لابد أنه سيفاجأ حين يراها ... و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية ! قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه ! لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي ... حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره ... وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جدعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه ... حزين ! طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي ... و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة ... بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه ! و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي ... فرجعت خطوة للوراء ... و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى ! أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة : كنت ... أعني ... لدي شيء أود إعطائك إياه ... وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة ... ربما أزعجه أن أحضر بمفردي ... أو ربما ... ربما ... لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري ... لا أظن أن وليد رآها و لكن ... حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف ارتعدت أطرافي و جفلت ! وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها ... نطق لساني بفزع و اضطراب أنا ... لم ... كنت ... سأعيدها إليك ! وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي ... في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر ... رأيت قطرات الدموع تتجمع ... ثم تفيض ... ثم تنسكب ... ثم تشق طريقها على الخد العابس ... ثم تنتهي عند الفك المنقبض ... لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها ... أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة ... حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي ... فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة .. يمد يده إلي و يقول : تعالي يا رغد وليد ... نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني ... بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة : انصرفي أنا انتفضت بذعر ... و ارتجفت جميع أطرافي ... فتحركت خطوة للوراء ... ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني ... و بأوسع خطى ... و ذهبت إلى غرفتي ... فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري ... كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة ... و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش ... فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها ... بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي **اني أصبحت مرعبة ! ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟ لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك ... هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة ***************ة ؟؟ أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟ أم ماذا ؟؟ و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته ... الساعة ! لقد حطّمها ! لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه ... لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟ شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني بكيت من الذعر و الخوف ... و الحيرة و الدهشة ... لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي ... لم يعد هذا وليد ! وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول : انصرفي كان دائما يبتسم و يقول : تعالي يا رغد !!
رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء لم يكن أمامي شيء يرى ... أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام لا شيء يستحق أن أعيش لأجله ... بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء ... يا رب ...
لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر ... و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر ... الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت ... و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة ... و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه ... و رغد ... رغد .. أول و آخر و أهم أحلامي ... رغد الحبيبة ... مدللتي التي رعيتها منذ الصغر ... و راقبتها و هي تنمو و تكبر ... يوما بعد يوم ... و قتلت عمار انتقاما لها ... و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن ... في السجن منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة ... و نور الشمس ... و ذقت الأمرين ... و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي ... بالعودة إليها و لو بعد سنين ... أعود فأراها مخطوبة لغيري ! و من ؟؟ لشقيقي ..؟؟ يا رب رحمتك بي فانا لست حملا لكل هذا و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال ... كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه ... ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟ و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع ... لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها ... رغد !؟ رغد صغيرتي أنا ... أصبحت زوجة لأخي ؟؟ إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة ... لم أجد في جسدي أي قوة حتى لرفع ذراعي و تطويق أمي ... بكيت في حضنها كطفل ضعيف هزيل جريح ... لا يملك من الأمر شيئا ... بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها ، حضر والدي و حالما رآنا أنا و أمي على هذا الوضع قال : يكفي يا أم وليد ... دعي ابننا يلتقط أنفاسه أما اكتفيت ؟؟ والدتي أخذت تحدق بي بين طوفان الدموع ... قلت بلا حول و لا قوة و بصوت أقرب إلى النحيب منه إلى الكلام : أنا متعب ... متعب جدا ... لقد انتهيت ... انتهيت ... و بعد حصة البكاء هذه صعدا بي إلى غرفة سامر ، و جعلاني أضطجع على السرير و هما يقولان : ارتح يا بني ... نم لبعض الوقت ثم غادرا ... و أنا مضطجع على الفراش و وجهي ملفوفا نحو اليمين ... و دموعي لا تزال تنهمر و تغرق الوسادة ، وقع ناظري على الهاتف ... مددت يدي و أخذته و استرجعت بصعوبة رقم هاتف الشقة التي يقيم سيف بها و اتصلت به يجب أن تحضر الليلة بعدها جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر ... كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق ... خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث ... لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي ... و عدم إقبالي على الطعام ، على ع** وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا
ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك ! أجبت ببرود و بلادة : اكتفيت و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك ... أما تفكيري أن فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي : ( نحن مخطوبان ) بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت : سأذهب معك أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف ... و قالا سوية و باستغراب : ماذا ؟؟ و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت : إذ لا سرير لي هنا ... و توقفت قليلا ثم تابعت : و لا أريد ترك صديقي وحيدا كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها ... و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر ... في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت : أتسمح بأن أدخن ؟؟ صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة ... بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف : متى بدأت تدخن ؟؟ لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام ... السجن يعلّم الكثير ... قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رقم تركيزه على الطريق ... تذكرت لحظتها تلك الأيام ... و أولئك الزملاء في السجن ... لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟ كأني أشم راحة الزنزانة ! ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء ! و هل يمكن أن أنساها ؟ و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط ...؟؟ ليتهم ... ليتهم قتلوني معك يا نديم ... ليتنا تبادلنا الأرواح ... فمت ُّ أنا و بقيت أنت ... و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك ... أنا ... لا أهل لي و لا بد ... و لا أحباب ... لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( الطفاية) ثم انطلق وليد بالسيارة ... أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام ... مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعا** مصابيح المنازل مصابيح الشارع ... لافتات المحلات الضوئية نور على نور على نور ... كم هو أمر مزعج ... لم أعد أرغب في رؤية شيء ... أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد ... أتمنى ألا يعود الغد ... أتمنى ... ألا أذكر رغد ... كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ... عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين .. ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح كلا .. أرجو أطفئه قلت ذلك و أنا ارفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ... سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ... ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ... ماذا حدث ؟؟ سألني سيف بصوت هادئ منخفض ... لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول : أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ... وليد ؟؟
الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ... الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب و يبدو إنها كانت كافيه لتع** بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد . لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ... جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ... تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا إلى الخارج ... يا دموعي و آلامي يا أحزاني و ذكرياتي الماضي إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي إلى الخارج يا بقايا الأمل إلى الخارج يا روحي ... و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة .... و إلى الخارج ... يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ... هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... و صمت ... فتابعت أنا مباشرة : كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء . إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت : أنا عائد معك إلى مدينتنا ! طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها سمعته يقول : ماذا ؟ ! قلت مؤكدا : نعم ! سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال : أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ... ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا : سيئا فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة ! إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ... و هل يشعر الجدار ؟؟ آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ... لقد سرقوا رغد مني ! لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت : أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... و سكت لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية ... و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة : أجدها مخطوبة ؟؟ هنا وقف سيف ... ألا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي قلت بصوت صارخ جاد مزمجر : و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها ... لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف ... و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك ... اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل ... و أنا أقول : لو كان ... لو كان شخصا آخر ... أي شخص ... لكنت قتلته و محوته من الوجود ... لكنه أخي ... أخي يا سيف ... أخي ... كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟ كيف فعلوا هذا بي ؟؟ أهذا ما أستحقه ؟؟ ليتني لم أخرج من السجن ليتني مت هناك ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما الخائنة ... الخائنة ... الخائنة ...
و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال ... لقد أطعمتك بيدي ... كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك أنت ... أيتها الخائنة ... أكان هذا حلمك ...؟ اذهبي بأحلامك إلى الجحيم ... و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم ... أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي ... لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس ... و تدري أيها صورة رغد ... فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات ... الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة ... أيتها الخائنة ... اذهبي و أحلامك إلى الجحيم ... و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير ... مت الورقة ... إربا إربا ... و رميت بها في الهواء ... و مت صورة رغد ... قطعة قطعة ... و بعثرتها في الفراغ ... إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي ... و انتهت آخر لحظات حبي الحالم ... و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي ... و لم يبق لي ... غير حطام قلب ٍ منفطر ...
ذهبنا أنا و دانة لرفع الأطباق عن المائدة كان الضيف مع أبي و سامر ، و وليد في غرفة الضيوف ، فيما تعد والدتي الشاي في المطبخ . لأن سامر يجلس عادة إلى يسار والدي ، فلا بد أن الضيف قد جلس إلى يمنه ، و لابد أن الكرسي المجاور له كان كرسي وليد ... من كان يجلس هنا ؟ سألت ، بشيء من البلاهة المفتعلة ، فأجابتني دانة بسحرية و هي ترفع الأطباق : ما أدراني ؟ أتصدقين ... لم أكن معهم ! أقصد كنت أجلس على الكرسي المقابل لكنني لم أنتبه لمن كان يجلس أمامي ! قلت : و ما دمت قد كنت جالسة معهم ، فلماذا لا أرى أطباقا أمام مقعدك ؟؟ رفعت دانة نظرها عن السكاكين و الملاعق و الأشواك التي كانت تجمعها ، و هتفت بغضب و حدة : رغد ! و هي تحرك يدها مهددة برميي بالسكاكين ! قلت بسرعة : حسنا حسنا لن أسأل المزيد و صمتنا للحظة ثم عدت أقول : الشخص الذي كان يجلس هنا ... لم يأكل شيئا ! ربما لم يعجب الضيف طعامنا ! كنت أريد منها فقط أن تقول شيئا يرجح استنتاجي بأن وليد كان هو من يجلس على هذا المقعد ... جلست على ذلك المقعد ، و أخذت إحدى الفطائر من الطبق الموضوع أمامي و بدأت بقضمها التفتت إلى دانة ناظرة باستهجان : ماذا تفعلين ؟؟ ! مضغت ما في فمي ببطء شديد ثم ابتلعته ، ثم قلت : أرى ما إذا كانت الفطائر في هذا الطبق غير مستساغة ! لكنها لذيذة ! لم لم تعجبه ؟؟ طبعا كنت أتعمد إثارة غيظها ! فأنا أريدها أن تأمرني بالمغادرة فورا لأنجو من غسل عشرات الأطباق ... فقد تعبت ! دانة كانت على وشك الصراخ بوجهي ، ألا أن والدتنا أقبلت داخلة الغرفة لتساعدنا في رفع الأطباق و تنظيفها ، فأسرعت بالنهوض و عملت بهمة و نشاط خجلا منها ! بعد أن انتهيت من درس الغسيل هذا ذهبت إلى غرفتي و أنا متعبة و أتذمر كنت قلقة بشأن بشرة يدي التي لا تتحمل الصابون و المنظفات أخذت أتلمسها و شعرت بجفافها ، فأسرعت إلى المرطبات و المراهم ، و دفنت جلدي تحت طبقة بعد طبقة بعد طبقة منها ! قلت في نفسي : رباه ! إنني لا أصلح لشيء كهذا ! كيف سأصبح ربة منزل ذات يوم ؟ لا أريد أن أفقد نضارتي ! و تذكرت حينها موضوع زواجنا الذي كدت أنساه ! لا أعلم ما إذا كان سامر قد تحدث مع والدي بشأن الزواج أم لا ... فقد شغلنا جميعا حضور وليد عن التفكير بأي شيء آخر ... اضطجعت على سريري بعد فترة ، و أنا متوقعة أن أنام بسرعة من شدة الإرهاق ... ألا أن أفكارا كثيرة اتخذت من رأسي ملعبا ليلتها و حرمتني من النوم ... ! حتى هذه اللحظة لا زلت أشعر بشيء يحرق داخل عيني ... إنها نظرة وليد المرعبة الحادة التي أحرقتني ... تقلبت على سريري كما تُقلّب السمكة أثناء شويها ! كنت أشعر بالحرارة في جسدي و فراشي ... فنظرت من حولي أتأكد من عدم انبعاث الدخان ! لماذا حدّق بي وليد بهذا الشكل ؟؟ تحسست يدي اليمنى باليسرى ، و كأنني لا أزال أشعر بالألم فيها بل و توهمت توهجها و احمرارها ... و حرارتها ... إنه طويل جدا ! لا يزال علي ّ رفع رأسي كثيرا لأبلغ عينيه ... و رفعت رأسي نحو السقف ، أعتقد أنني رأيت عينيه هناك ! معلقتين فوق رأسي تماما ... بسرعة سحبت البطانية و غطيت رأسي كاملا ... و بقيت هكذا حتى نفذت آخر جزيئات الأو**جين من تحت البطانية فأزحتها جانبا ، و انتقل الهواء البارد المنعش إلى صدري مختالا ، ألا أن حرارتي أحرقته ، فخرج حارا مخذولا ! عدت أنظر إلى السقف ، و أتخيل عيني وليد ... و أنفه المعقوف ! و أتخيله يضع نظارة سامر السوداء التي تلازمه كلما خرج من المنزل ، كم ستبدو مناسبة له ! لا أعرف كم من الوقت مضى و أنا أتفرج على الأفكار الة و هي تلعب بحماس داخل رأسي ! كنت أريد أن أنام و لكن ... نظرت إلى ساعة الجدار و رأيت عقربيها الوامضين يشيران إلى الساعة الواحدة ليلا ... ليس من عادتي أو عادة أفراد عائلتي السهر ... لابد أن الجميع يغط الآن في نوم عميق فيما أنا مشغولة بعيني وليد ! لدى رؤيتي للساعة تذكرت شيئا فجأة ، فجلست بسرعة : الساعة ! و بسرعة خاطفة ، نهضت عن سريري و خرجت من الغرفة و ركضت نحو غرفة الضيوف ... لقد وجدت الباب مغلقا ، فوقفت حائرة ... ترى هل يوجد أحد بالداخل ؟؟ و خصوصا من النوع الذي تتعلق عيناه في الأسقف ؟؟ قربت رأسي و تحديدا أذني من الباب ، قاصدة الإصغاء إلى أي صوت قد يدل على وجود شخص ما ، مع أنني واثقة من أن أذني ليستا خارقتين ما يكفي لسماع صوت تنفس بشر ما يفصلني عنه باب و عدة خطوات ! لكني على الأقل ، لم أسمع صوت المكيف ! لمست مقبض الباب الحديدي ، و لأنه لم يكن باردا اعتمدت على هذا كدليل قاطع يثبت أن المكيف غير مشغل ، و بالتالي فإن أحدا ليس بالداخل ! أعرف ! أنا أكثر ذكاءا من ذلك ، لكن هذه اللحظة سأعتمد على غبائي ! فتحت الباب ببطء و حذر ... و تأكدت حينها أنه لم يكن هناك أحد... أشعلت المصباح و توجهت فورا إلى المكان الذي وقعت فيه الساعة بعد ارتطامها بالحائط ... خلف المعقد الكبير ... كانت هناك مسافة لا تتجاوز البوصتين تفصل المقعد الكبير عن الجدار ... حاولت النظر من خلال هذا المجال الضيق ألا أنني لم أستطع رؤية شيء صحيح أن حجمي صغير ألا أن يدي أكبر من أن تنحشر في هذه المساحة الضيقة محاولة استخراج الساعة ! تبا ! ماذا أفعل الآن ؟؟ شمّرت عن ذراعي ، و تأهبت ... ثم أمسكت بالمقعد الكبير و حاولت تحريكه للأمام محاولة مستميتة لكن مفاصلي كادت تنخلع دون أن يتزحزح هذا الجبل عن مكانه قدر أنملة !
أرجوك أيتها الساعة أخرجي من هناك !
ليتها كانت تسمعني ! لماذا لم يصنع الإنسان ساعة تمشي على أرجل حتى يومنا هذا ؟؟ شعرت بإعياء في عضلاتي فارتميت على ذلك المقعد ... رباه ! ستضطر غاليتي للمبيت بعيدة عني ... مجروحة و حزينة و لا تجد من يواسيها ! وضعت وسادة المقعد على صدري و أرخيت عضلاتي ... لم أشعر بنفسي ... و لا حتى بالحر الذي يكوي داخلي قبل خارجي و استسلمت للنوم ! و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ... متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ... طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ... نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة .. أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ... وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممة ، لكنني لم أقو على ذلك ... كيف لي أن أمح من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟ آخر شيء جاءني منك ... و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ... كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ... لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ... لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ... بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ... تفكيري لم يكن صافيا ، ألا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ... بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ... ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه ! هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين التين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ... لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ... قال سيف : أنني أفكر في الطعام ! أ لديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من ان تسمح لي بأي تفكير لائق او ذوق سليم ، قلت : دعنا ننطلق الآن سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ... الآن ؟؟ نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضير من السفر الآن سيف صمت قليلا ثم قال : عائلتك ... أتظن أنهم .... ... رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت : لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ... بل من البارحة فصاعدا لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ... بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ... سأمر لوداعهم نعم وداعهم بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس بعد كل الحرمان و الضياع ... أودعهم ! كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟ لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا و حين وصلنا ، أركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية . كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ... قلت سيف معي ... و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف : تفضل و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ... في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له ! صباح الخير يا أبي والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل ! هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ... ابتسمت لدى رؤيتي و قالت : لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ... قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث : هل تناولتم فطوركم ؟ ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما ! و استطردت : سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها حسنا و هممت بالانصراف ، فقالت أمي : قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ... قلت بلا مبالاة : أي شيء ... ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف . كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي ! ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع ! أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا اعرف ماذا افعل ! ببساطة لا أعرف ماذا أفعل ! ثم ماذا ؟ رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب ! رغد انتظري ! توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة ! ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار ! و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... ! اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، ألا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح ! أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ... عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب : أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... و لم أجد كلمة مناسبة ! مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا : يمكنك الذهاب و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة... تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ... لقد كان دافئا بل و حارا أيضا ! ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟ و تتدثرين بالوسادة أيضا ! يا لك من فتاة ! لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ... لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك إنها ضحكة ! لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ... لم يطل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ... و أداعب شعرها الأملس ... كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة ! و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية ! لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ... لم أدرك أنني نمت حيث كنت ، على ذلك المقعد الكبير الثقيل ، ( الكنبة ) إلا بعد أن استفقت فجأة فرأيت عيني وليد تحدقان بي ! فزعت ، و نظرت من حولي و اكتشفت أنني كنت هنا ! كان جسمي حارا و العرق يتصبب منه ، و جلست مذعورة أتلفت باحثة عن شيء أختفي خلفه ... و لم أجد غير وسادة المقعد التي كنت ألتحفها غطيت بها وجهي و قمت مسرعة أريد الهروب ! لا أصدق أنني وصلت غرفتي أخيرا بسلام ! يا إلهي ما الذي يحدث معي !؟ كيف نمت بهذا الشكل ؟؟ و كيف لم يوقظني الحر ؟؟ و ما الذي كان يفعله وليد هناك ؟؟؟ كنت لا أزال أحتضن الوسادة و أسند ظهري إلى الباب الموصد ، و ألتقط أنفاسي بقوة ! كانت غرفتي باردة و لكن ليس هذا هو سبب ارتعاش أطرافي ! كم أنا محرجة من وليد ! أمس يراني بقطعة عجين تغطي أنفي و اليوم بهذا الشكل ! ماذا سيظنني ؟؟ كما تقول دانة .. علي ّ ألا أغادر غرفتي بعد الآن ! كنت أشعر بعينيه تراقباني ! أحس بهما معي في غرفتي الآن ! ببلاهة نظرت إلى السقف ، في الموضع الذي توهمت رؤيتهما فيه البارحة و تورد خداي خجلا ! لماذا أشعر بالحرارة كلما عبر وليد على مخيلتي ؟؟؟ و لماذا تتسارع دقات قلبي بهذا الشكل ؟؟ بعد أن تجمعت الأشياء التي تبعثرت من ذاتي أثر الفزع نعمت بحمام منعش و بارد و ارتديت ملابسي و حجابي و ذهبت بحذر إلى المطبخ ... كانت أمي تنظف السمك عند المغسل ، قلت باستياء : صباح الخير أمي ! لا تقولي أن غذاءنا اليوم هو السمك ! ابتسمت والدتي و قالت : صباح الخير ! إنه السمك ! أطلقت تنهيدة اعتراض ، فأنا لست من عشّاق السمك كما و أنني لا أريد حصة طبخ جديدة هذا اليوم ! ألم تنهض دانة بعد ؟؟ سألتني ، قلت : ليس بعد ... ثم غيرت نبرة صوتي و قلت : أ لدينا ضيوف اليوم ؟؟ إنه صديق وليد ... سيف ... ، لسوف نستضيفه و نكرمه حتى يسافر غدا ، فهو الذي ساعد ابني على ... و توقفت أمي عن الكلام ... على ماذا ؟ قالت بشيء من الاضطراب : على ... على الحضور إلى هنا ... فلم يكن يعرف أين نحن ! أنا تركت رسالة أخبر فيها وليد بأننا رحلنا على هذه المدينة ! لا أدري إن كان قد وجدها ! بالطبع لا ... كيف كان سيدخل إلى منزل موصد الأبواب !؟ كم أنا متلهفة لمعرفة تفاصيل غيابه ... دراسته ... عمله ... كل شيء ! سكبت لي بعض الشاي ، و توجهت نحو الطاولة الصغيرة الموجودة على أحد جوانب المطبخ قاصدة الجلوس و احتسائه على مهل فيما أنا في طريقي نحو الطاولة ، و إذا بوليد و سامر مقبلين ... يدخلان المطبخ ! ما أن وقع بصري على وليد حتى اضطربت خطاي و اهتزت يدي ، و اندلق بعض الشاي الحار على أصابعي فانتفضت أصابعي فجأة تاركة قدح الشاي ينزلق من بينها و يهوي ... و يرتطم بالأرضية الملساء ساكبا محتواه على قدمي و ما حولها ! آي شعرت بلسعة الشاي الحار و ابتعدت للوراء و أنا أهف على يدي لتبريدها ... سامر أقبل مسرعا يقول : أوه عزيزتي ... هل تأذيت ؟ ! قلت : أنا بخير و أنا أتألم ... سامر أسرع نحو الثلاجة و أخرج قطعة جليد ، و أتى بها إلي ، أمسك بيدي و أخذ يمررها على أصابعي ... لملامسة الجليد لأصابعي شعرت بالراحة ... قلت : شكرا و ابتسم سامر برضا . تركته مشغولا بتبريد أصابعي و سمحت لأنظاري بالتسلل من فوق كتفه ، إلى ما ورائه ... كان يقف عند الباب ، سادا بطوله و عرضه معظم الفتحة ، يحدق بنا أنا و سامر بنظرات مخيفة ! لا أعرف لماذا دائما تشعرني نظراته بالخوف ... و الحرارة ! الجليد أخذ ينصهر بسرعة .... رفعت أنظاري عنه و بعثرتها على أشياء أخرى ، اقل إشعاعا و حرارة ... كالثلاجة كإبريق الشاي ، أو حتى ... لهيب نار الموقد ! لكني كنت أشعر بها تحرقني عن بعد ! أ أنتم واثقون من أنكم لا تشمون شيئا ؟؟ وليد الآن تحرك ، متقدما للداخل ... و مبتعدا عنا ، و متوجها نحو أمي ... قال : ماذا تصنعين أماه ؟ سأحضر لكم السمك المشوي هذا اليوم ... ألم يكن صديقك يحبه في الماضي حسب ما أذكر ؟؟ سكت وليد برهة ثم قال : لا داعي ... يا أمي .. و سكت برهة أخرى ثم واصل : سوف يسافر سيف الآن ... جميعنا ، أنا و سامر و أمي ، نظرنا إلى وليد باهتمام ... قالت أمي : يسافر ؟ ألم تقل أنه سيبقى حتى الغد ؟ بلى ... لكن خطته تغيرت و سيخرج ... فورا قال ( فورا ) هذه بحدة و هو ينظر باتجاهنا أنا و سامر أمي قالت : اقنعه يا وليد بالبقاء حتى وقت الغذاء على الأقل ... اقنعه بني ! وليد كان لا يزال ينظر باتجاهنا ، و رأيت يده تنقبض بشدة و وجهه يتوهج احمرارا و على جبينه العريض تتلألأ قطيرات العرق ... لم يكن الجو حارا و لكن ... هذا الرجل ... ناري ... ملتهب ... حار ... يقدح شررا ! نظر إلى أمي نطرة مطولة ثم قال : أنا ... ذاهب معه سامر ، ترك قطعة الجليد فوق أصابعي و استدار بكامل جسده نحو وليد ، كما فعلت أمي ... قال سامر : عفوا ؟؟ ماذا ؟؟ وليد لم ينظر إلى سامر بل ظل يراقب تعابير وجه أمي ، المندهشة الواجمة ، و قال : نعم أمي ... سأسافر معه ... حالا لم تجد الدموع و النداءات و التوسلات التي أطلقها أفراد عائلتي في صرف نظري عن السفر ... بل إنني و في هذه اللحظة بالذات ، أريد أن أختفي ليس فقط من البيت ، بل من الدنيا بأسرها لقد كانت حالة أمي سيئة جدا ... و لكن صورة الخائنين و أيديهما المتلامسة ... و قطعة الجليد المنزلقة بدلال بين أصابعهما أعمت عيني عن رؤية أي شيء آخر ... و أقيم مهرجان مناحة كبير ساعة وداعي ... كان يجب أن أذهب ، و لم يكن لدي أية نوايا بالعودة ... فقد انتهى كل شيء ... تحججت بكل شيء ... أوراقي ... شهادتي ... أشيائي ... و كل ما خطر لي على بال ، من أجل إقناعهم بتسليمي مفاتيح المنزل ... سيف ينتظرني في السيارة ، و هم متشبثون بي يعيقون خروجي ، محيطون بي من الجهات الأربع ... أمي و أبي ، و أختي و آخي الخائن ... أما الخائنة رغد ... فكانت تراقب عن بعد ... إذ أنني لم أعد شيئا يجوز لها الاقتراب منه ... للحظة اختفت رغد ، و صارت عيناي تدوران و تجولان فيما حولي ... أين أنت ...؟؟ أين ذهبت ؟؟ أعليها أن تحرمني حتى من آخر لحظة لي معها ؟؟ آخر لحظة ؟؟ كنت ممسكا بالباب في وضع الخروج ... أردت أن أسير خطوة نحو الخارج ألا أن قبضة موجعة في صدري منعتني من الخروج قبل أن ... أراها للمرة الأخيرة ... فقط ... للمرة الأخيرة ... أين رغد ؟؟ قلت ذلك ، و عدت نحو الداخل أفتش عنها وجدتها في غرفة الضيوف و كانت للعجب ... تحاول تحريك المقعد الكبير عن مكانه ! رغد ... ! التفتت إلي ، فرأيت الدموع تغرق عينيها فيما هي تحاول جاهدة زحزحة المقعد دموع رغد تقطع شرايين قلبي ... أشعر بالدماء تغرق صدري و رئتي ... و تسد مجرى هوائي .... إنني أختنق يا رغد ! ليتك تحسين بذلك ... ماذا تفعلين ؟؟ ألن ... تودعيني ؟؟ هزّت رأسها نفيا و اعتراضا ... تقدمت نحوها ، و أمسكت بالمقعد و حركته عن موضعه نحو الأمام بالشكل الذي أرادت فأسرعت هي إلى خلفه ، و انحنت على الأرض و التقطت شيئا ما ، لم يكن غير ساعتي القديمة ... رغد أقبلت نحوي تمد يدها إلي بالساعة و تقول : لقد تركت الجميع يسخر مني ... و أنا محتفظة بها و أرتديها في انتظار عودتك كما وعدت ! لكنك كذبت علي ... و لم تعد ! و رمت بالساعة نحوي فأصابت أنفي ... انحنيت و رفعت الساعة عن الأرض ... و بقينا نحدق ببعضنا لبرهة ، ثم قلت : لم تعودي بحاجة للاحتفاظ بها ... فصاحب الساعة ... لم يعد موجودا و أوليتها ظهري ، و انصرفت نحو باب المدخل ... لم أعط بصري الفرصة لإلقاء أي نظرة على أي منهم ... لم ألتفت للوراء ... و كنت اسمع نداءاتهم دون أن أستجيب لها ... تريدون عودتي ؟؟ أعيدوا رغد إلي أولا ! أم تظنون أنني سأحتمل العيش بينكم ، و هي ... خطيبة لأخي ؟؟
دون رغد ... فإن وليد لم يعد له وجود على وجه الأرض ... ألا تدركون ذلك ؟؟ ألا تدركون ما فعلتم بي ؟؟ قتلتموني ... شر قتلة ...
وليـــــــــــــــــــــد كان هذا صوت رغد ... يخترق أذني ... و رأسي ... و قلبي ... و كل خلية ... و كل ذرة من جسدي ... لم أستطع أن أقاوم ... التفت نحو الوراء و لم أر شيئا ... غير طفلة صغيرة ... ضئيلة الحجم ... دائرية الوجه ... واسعة العينين ... خفيفة الشعر ... يتدلى شعرها القصير الأملس على جانبيها بعفوية ... ترفع ذراعيها نحوي بدلال و تقول : وليـــــــــــــــد ... احملني ! رغد ... تعالي ! رأيت شبحها يقبل نحوي ... راكضا ... ضاحكا ... حاملا في يده اليمنى دفتر تلوين ... و في الأخرى صندوق الأماني ... و يمد ذراعيه إلي ... فأطير به إلى الهواء ... إلى الفضاء ... إلى السماء ... إلى حيث ترتفع أرواح الموتى ... و تصعد دعوات المعذبين ... يا رب ... أتوسل إليك ... أرجوك ... خذني إليك ...
طريق العودة لم يكن بأقل مشقة من طريق الذهاب ... ألا أنني بسبب التعب و الإجهاد النفسي نمت معظم ساعات النهار الأول . حطام الأشياء التي أراها من حولي لا يختلف عن حطام قلبي ... ألا أن الجماد لا ينزف دما التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب هي الشيء الوحيد الذي خفف على قلبي آلام التم و التقطع و الاحتراق ... توالت الساعات ، و كنت أتابع باهتمام مزيف كل ما أسمعه من المذياع هروبا من التفكير في الطريق الذي ولى ... و الطريق القادم ... في الماضي ... و المستقبل ... بلغنا مدينتنا قبيل غروب الشمس الثالثة التي أنارت دربنا ... خذني إلى بيتي قلت ذلك و نحن أمام مفترق طرق ، يؤدي أحدهم إلى بيتي و آخر إلى بيت سيف الآن ؟ دعنا ننزل بيتنا و نرتاح من عناء المشوار الطويل ... أرجوك يا سيف ... إلى بيتي ... لم أكن هذه المرة أشعر بأي شوق أو حماس لدخول المنزل المهجور و سيف هم ّ بالحضور معي أل أنني قلت : لابد أن والديك في انتظارك الآن ... سأشكرك كما ينبغي لاحقا ، بلغهما تحياتي كان سيف قلقا بشأني و لكنني صرفته ، و دخلت المنزل المظلم وحيدا . رفعت يدي لإنارة المصباح ، بل المصابيح واحدا تلو الآخر فاكتشفت أن الكهرباء مقطوعة . و على الضوء الباقي من آخر خيوط الشمس ، سرت في منزلي الكئيب الساكن و صعدت إلى الطابق العلوي ... ذهبت رأسا إلى غرفة نومي ... أخرجت المفاتيح ، ثم فتحت الباب ببطء ... و خطوت خطوة إلى الداخل ... سرعان ما عادت بي السنين إلى الوراء ... حين كنت فتى مراهقا في بداية التاسعة عشر من العمر ... أجلس على هذا الكرسي أذاكر بشغف ... يا إلهي ! لا تزال كتبي التي تركتها على المكتب في مكانها ! مفتوحة كما تركتها قبل ثمان سنين ! جلت ببصري في الغرفة ... و فوجئت برؤية الأشياء كما هي ... تقدمت خطوة بعد خطوة ... السرير ... نفس البطانية و الأغطية التي كانت عليه قبل رحيل ... اقتربت من المكتب ... إنه كتاب الرياضيات الذي كنت أقرأه آخر ليلة قبل الرحيل ، استعدادا لامتحان الغد ! و قلم الرصاص لا يزال موضوعا على الصفحة المفتوحة ... و بقية الكتب مبعثرة على الطاولة تماما كما تركتها منذ ذلك الزمن ... مددت يدي فلمست الغبار الذي يغطي الكتاب ، و كل شيء ... فتحت الأدراج لألقي نظرة ... لا شيء تغير ! لا يبدو أن أحدا قد وطأ أرض هذه الغرفة مذ هجرتها استدرت نحو سريري ... لطالما احتضنني هذا السرير و امتص تعبي و أرقي ... ألا زال يصلح للنوم ؟ أ أستطيع رمي أثقال صدري و جسدي عليه ؟؟ كان أيضا غارقا في الغبار ... و مع ذلك رميت بجسدي المهموم عليه و سمحت لسحابة الغبار أن تحلق ... و تنتشر ... و تهاجم أنفي و تخنقني أيضا ... داهمتني نوبة من العطاس اثر استنشاقي لغبار الزمن ، فنهضت و تلفت من حولي بحثا عن علبة المناديل لابد أنها ستكون مدفونة تحت طبقات من الغبار هي الأخرى ...
لكن أنظاري التصقت فجأة بشيء يقف على أحد أرفف مكتبتي القديمة ... شيء أسطواني الشكل ، مغطى بطوابع و ملصقات صغيرة طفولية ... و من بين تلك الملصقات ، يظهر جزء من كلمة مكتوبة عليه : ( أمـاني ) سرت ببطء شديد ، بوصة بوصة ، نحو هذا الصندوق الصغير ... أكان حلما أم حقيقة ؟؟ لقد رأيته أمامي مباشرة ، و لمسته بيدي ... و رججته ، و سمعت صوت قصاصات الورق تتضارب داخله ! صندوق أماني رغد ... لا يزال حيا ؟؟ أمسكت بالصندوق الأسطواني ، و قربته من عيني ، ثم من صدري ، و أرخيت جفني ، و سحبت نفسا عميقا مليئا بالغبار ... رأيت الصغيرة مقبلة نحوي بانفعال و فرح ، حاملة كتابها بيدها : وليد اصنع صندوق أماني لي و رأيتها تساعدني في صناعته ... ثم تغطيه بالملصقات الصغيرة ... ثم تجلس هناك على سريري ، قرب المنضدة ، و تكتب أمنيتها الأولى ... (( عندما أكبر سوف أتزوج .... )) عند هذا الحد ... ارتفع جفناي فجأة ، و انقبضت يدي بقوة ... ضاغطة على الصندوق بلا رحمة حتى خنقت أنفاسه ... تدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتي اليمنى ، فاليسرى ، تبعها سيل عارم من الدموع الكئيبة التائهة ، تغسل ما علق بوجهي و أنفي من الغبار العتيق ... شقت نظرتي طريقا سالكا بين الدموع ، مسافرة نحو صندوق الأماني المخنوق ... محرضة يدي ّ على التعاون للفتك به ... و تمزيقه كما تمت كل آمالي و أحلامي ... و صورة رغد و رسالتها ... و قلبي و روحي ... لكنني توقفت في منتصف الطريق ... لم أعد أرغب في رؤية ما بداخله ... فأنا أعرف كل شيء ... ( أتمنى أن أصبح رجل أعمال كبير و مهم ! ) ( أريد أن تصبح ابنة عمي رغد زوجة لي ) ( يا رب اشف سامر و أعده كما كان ) ( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟؟؟ ) سامر قطعا ... كم كنتُ ***************ا ! ضغطت على الصندوق بقوة أكبر فأكبر ... و لو كان شيئا مصنوعا من الحديد لتحطم في قبضتي ... أيتها الخائنة ... رغد رميت الصندوق بعنف بعيدا عني ... إلى أبعد زاوية في الغرفة ، ثم خرجت هاربا من الذكرى الموجعة أول شيء التقيت به في طريقي كان غرفة رغد ! فهي الأقرب إلي ... وقفت عند الغرفة لدقائق ... و يدي تفتش عن المفتاح بتردد ... رفعت يدي ... و طرقت الباب طرقا خفيفا ثم مددتها نحو المقبض و أمسكت به و بقيت في هذا الوضع لزمن طويل ... سأفتح الباب ببطء و حذر و هدوء ... قد تكون صغيرتي نائمة بسلام ... لا أريد إزعاجها أريد فقط أن ألقي نظرة عليها كما أفعل كل ليلة ... لا أحب إلى قلبي من رؤيتها نائمة بهدوء كالملاك .. و ملامسة شعرها الناعم بخفة ... نظرة أخيرة ... واحدة فقط ... أريد أن ألقيها على طفلتي ... رغد ... لقد اشتقت إليك كثير! ... منذ أن رأيتك و أنت نائمة ... هنا قبل ثمان سنين ، و جفناك متورمان أثر البكاء الشديد الذي بكيته ذلك اليوم المشؤوم ... أتذكرين كيف لعبنا يومها ؟؟ أتذكرين البطاطا التي أطعمتك إياها ...؟؟ ما كان يدريني أننا لن نلتقي بعد تلك اللحظة ... و أنها كانت المرة الأخيرة التي أتسلل فيها إلى غرفتك ، و ألقي عليك نظرة ، و أداعب خصلات شعرك ، و أقبل جبينك ... ارتجفت رجلاي و كذا يداي و جسمي كله ، و فقدت أي قدرة على تحريك أي عضلة في جسدي ، حتى جفوني لم أجسر على فتح الباب ... عدت أطرقه و أنادي ... رغد ... صغيرتي ... افتحي ! أنا وليد ... لكنها لم تفتح و أخذت أطرق بقوة أكبر ... افتحي يا رغد ... لقد عدت إليك و بقي الباب ساكنا جامدا ... لم تعد رغد موجودة و لم يعد وليد موجود ... و لم يعد لفتح هذا الباب ... أي داع ... هويت على الأرض ... **قف أزيلت أعمدته فجأة ... و رفعت ذراعي إلى الباب و صرخت ... رغد ... عودي إلي ... من تتوقعون زارنا قبل أسبوع ؟؟ إنها عائلة اللاعب الشهير ( نوّار ) ! و هل استنتجتم ما سبب الزيارة ؟؟ أجل ! مشروع زواج ! بصراحة أنا فوجئت بشدة ! لم أكن أعتقد أن الأمر سيسير حسبما كانت دانة ترسم ! و لكن يبدو أن هناك أمور أخرى لا أعلم عنها شيئا ...
زيارتهم كانت بعد رحيل وليد بثلاثة أسابيع ... خلال الأسابيع الثلاثة تلك ، كان الجميع يعيش حالة كآبة و حزن مستمرين لم تطلع أو تغرب علي شمس دون أن أفكر بوليد ... و بلقائنا الحميم ، ثم نظراته القاسية ، ثم رحيله المفاجئ ... والدتي أصابها حزن شديد لازمت بسببه الفراش فترة من الزمن ... أنا أيضا حزنت كثيرا جدا ... أنا لم أكد أره ... لم أكد أشعر بوجوده ... إنني لا أصدق أنه عاد بالفعل ... لقد كبرت على الاعتقاد بأنه لن يعود ... و حقيقة ... هو لم يعد ... رغد ! ألم تنهي حمّامك بعد ؟؟ جاءني صوت دانة من الخارج ، تحثني على الخروج بأقصى سرعة ... كنت لا أزال أمشط شعري القصير المبلل أمام المرآة المغطاة بطبقة من الضباب ! فتحت الباب فانطلق بخار الماء متسربا للخارج ، و وجدت دانة واقفة و ذراعاها مضمومان إلى صدرها ، تنظر إلي بحنق ! أهو حمام بخاري ؟ هيا اخرجي يكاد ضيوفي يصلون و أنا لم أستعد بعد ! سرت ببطء شديد ، متعمدة الإطالة أقصى ما يمكن ... ! دانة تحدق بي بغضب و نفاذ صبر و تصرخ : أوه يا لبر ودك ! هيا أخرجي ! لم كل هذا الانفعال !؟ كأنك ستقابلين جلالة الملكة ! أنت لا تفهمين شيئا ! لا يمكنك أن تحسي بمثل أحاسيسي الآن ! لم تجربي ذلك و لن تجربيه ! قالت هذا ثم دفعتني قليلا بعيدا عن الباب ، و دخلت الحمام الغارق في البخار و صفعت بالباب بقوة ! ذهبت إلى غرفتي ب**ل ... و أخذت أتابع تمشيط شعري المبلل أمام مرآتي ... هل تحس كل فتاة على وشك مقابلة أهل عريسها بكل هذا التوتر ؟؟ أنهم سيعلنون الموافقة الرسمية و يناقشون شروط العقد هذه الليلة ، و سنقيم حفلة صغيرة بعد أيام لعقد القران ... دانة أصبحت لا تطاق بسبب توترها و عصبيتها ، لكنها سعيدة ! سعيدة جدا ... أنا لم أجرب هذا الإحساس ... و لا أعرف كيف يكون ... إنني فقط أعرف أنني مخطوبة لابن عمي سامر لأنني يجب أن أكون مخطوبة له ... و سأتزوج منه لأنني يجب أن أتزوج منه ... سامر في الوقت الحالي مسافر إلى مدينة أخرى ، من أجل العمل موضوع زواجنا تم تأجيل النقاش فيه ، بسبب حضور و رحيل وليد الذي أربك الأجواء ، ثم خطبة دانه التي شغلتنا أواخر الأيام ... وليد لم يتصل بنا منذ رحيله ، و والدي يحاول جاهدا الاتصال به بطريقة أو بأخرى من أجل إبلاغه عن خطبة دانه و حفلة العقد مجرد تفكيري بهذا الأمر يشعرني بالسعادة ... فوليد سيأتي و لا شك ... لحضور حفلة شقيقته و المشاركة فيها ... ألقيت بالمشط جانبا و خرجت من الغرفة في طريقي إلى المطبخ ، و وصلني صوت دانه و هي تغني داخل دورة المياه ! أنا لم أغنِّ عند خطبتي ! حين وصلت ، كانت أمي تتبادل الحديث مع والدي بشأن دانه ... لكنهما توقفا عن الكلام لدى رؤيتي ! أمي ... ماذا عن وليد ؟؟ فهو كان شغلي الشاغل منذ أن رحل ... بل منذ أن وصل ! أمي و أبي تبادلا نظرة سريعة ، قال والدي بعدها : لقد استطعت التحدث إلى سيف ، و أوصيته بزيارة وليد بأقصى ما يمكنه ، و إبلاغه بأنتا ننتظر مكالمة ضرورية منه فرحت بذلك ، و قلت تلقائيا : إذن سأعتكف عند الهاتف ! في ذات اللحظة رن هذا الأخير ، و قفزت مسرعة إليه ! مرحبا ! هنا منزل شاكر جليل ... من المتحدث ؟ كانت ابتسامتي تعلو وجهي ، و حين وصلني صوت الطرف الآخر : رغد ! أهذه أنت ؟؟ تلاشت الابتسامة بسرعة ، و قلت بشيء من الخيبة : نعم ... سامر ، إنها أنا و بعد بضع عبارات تبادلناها ، دفعت بالسماعة إلى والدي : إنه سامر ... لن يحضر الليلة و انصرفت عن المطبخ . حين سافر سامر ... لم أبك كما بكت أمي ... و كما بكيت لسفر وليد ... لم يكن هناك أي هاتف في غرفة نومي ، لذا جلست في غرفة المعيشة قريبة من التلفاز ، و كلما رن هاتف بادرت برفع السماعة قبل أن تنقطع الرنة الأولى ! و في كل مرة أصاب بخيبة أمل .... لكن ... لماذا أنا متلهفة جدا للتحدث إليه ؟؟ بعد فترة ، حضر الضيوف المرتقبون ، العريس و والداه و أخته الوحيدة ، صديقة دانه لو أؤلف كتابا في وصف دانه لسببت أزمة ورق ! سألخص ذلك بقول : كانت غاية في الجمال ، و الخجل ، و اللطف ، و السعادة ! تم الاتفاق على كل شيء ، و تعين تحديد يوم ليلة الخميس المقبلة لعقد القران ! لم أجلس مع ضيفتينا غير دقائق متفرقة ، و تمركزت عند الهاتف في انتظار اتصال من اتصل رجال العالم كلهم ببيتنا سواه ! عند العاشرة و النصف ، استسلمت ... و ذهبت في اتجاه غرفتي .. مررت بغرفة دانه ، فوجدتها مشغولة بإزالة المساحيق و الإ**سوارات التي تزين بها شعرها ! كنت جميلة ! نظرت إلي بغرور ، و قالت : اعرف ! ثم استطردت : و سأكون أجمل في الحفلة ! علي أن أذهب للسوق غدا لشراء الحاجيات ! عظيم ! أنا أيضا سأشتري فستانا جديدا و بعض الحلي ! ابتسمت دانه بسعادة ، و قالت : كم أنا متوترة و قلقة ! ستكون حفلة رائعة ثم أضافت ببعض الخبث : أروع من حفلتك لم أكن في السابق أتضايق كثيرا لتعليق كهذا ، ألا أنني الآن شعرت بالانزعاج ... قلت : أنا لم تقم لي حفلة حقيقية ... لم يكن يوما مميزا قالت : وضعي أنا يختلف ! سأتزوج من أشهر لاعبي الكرة في المنطقة ، و أغناهم أيضا ... شيء مميز جدا ! ... والدي وعدني بليلة لا تنسى ! أصابني كلامها بشيء من الخذلان و الحزن ، فأنا لم يعمل والدي لأجلي شيئا يذكر ليلة عقد قراني ... هممت بالانصراف ، توقفت قبل أن أغلق الباب ، و سألت : هل سيكون وليد موجودا ؟؟ شيء ما برق في عينيها و قالت : نعم ، بالتأكيد سيكون موجودا ... لا يمكنه أن يتخلى عني أنا ! ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ... فوليد لم يتصل و دانه تسخر مني و من الطريقة التي تمت خطبتي بها ... رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر ... فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور بقية الفتيات ... و بسببي أنا ... فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ، حضر صديقي سيف . لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ... حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح : تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت : جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال : لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ... هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل قلت : كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى سيف نظر إلي باستنكار ... أية ارتباطات ؟؟! ابتسمت و قلت : سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال : أي أطفال ؟؟ قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا : رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ... ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ أعني بذلك الفاصوليا سيف تنهد ثم قال : وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت : أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال : ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا دفعت بالكرسي للوراء و أنا انهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ... سيف وقف بدوره ، و تابع : لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ استدرت إلى سيف ، و قلت : ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا : المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا : تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... قلت بسرعة : معك ؟ أم عندك ؟؟ استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف . استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ... لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ... قال سيف : المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله ثم تقدّم نحوي و قال : و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص خرج من السجن قبل أسابيع ... كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ... قال سيف : يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! ما هو ؟؟ تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟ أتعرف ما الأمر ؟؟ لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ... قلت : الخط مقطوع ! حقا ؟؟ كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! ضحك سيف ثم قال : معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال : موعدنا غدا مساءا ! كما تريد و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ... لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ... تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ... في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية . حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر إلي بشكل غريب ! نظرت إليه باستغراب ، فقال : ألست وليد شاكر ؟؟ فوجئت ، فلم يبد لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت : بلى ... هل تعرفني ؟؟ قال : و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من ال**ائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ... شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول : ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي ... جاء صوت من مكان ما يقول : أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ... شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ... خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ... لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ... توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ... كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ... و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ... ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم ! و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء ... شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ... شعور مرعب مفزع ... ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ... أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ... نعم ؟ لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ... نعم ؟ من المتحدث ؟؟ كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض ... قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ... ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي ! قلت : أنا وليد لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت : رغد ألا زلت معي ؟؟ نعم ارتحت كثيرا لسماع صوتها أو ربما ... تعذبت كثيرا ... وليد كيف حالك ؟ أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك قلت بقلق : ما الأمر ؟؟ رغد قالت : لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر أقلقني حديثها أكثر ، سألت : ما الخطب ؟؟ إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل
كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ... لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ... حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء وليد ... حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة .... خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ... نـ ... ـعم ... صـ ... ـغيـ ... ـرتي ؟؟ عد بسرعة ! و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ... و الذي طردها بسرعة هو أنا لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ... قلت : سأرى ، وداعا و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ... كم شعرت بقربها ... و بعدها ... حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ... دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء ... ( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... ) ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا ! سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ... شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسلل خيوط الضوء للداخل و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد ! رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ... هتفت ... رغد ! بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مددت ذراعي و ناديتها : رغد تعالي ... لكنها توقفت ... و قالت : وليد ... عد بسرعة ثم استدارت عائدة من حيث أتت جن جنوني و أنا أراها تغادر قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف : رغد انتظري ... رغد لقد عدت ... رغد لا تذهبي لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ... أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ... كدت أ**ره ، أو أ**ر عظامي ... لكنه ظل موصدا ... كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ... أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ... لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين ... و رغم انها تعذبني ، ألا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين ... و لم يعد لها وجدود ... في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع ... و لكم أن تتصوروا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا ... يخاطبوني بها أختي الصغيرة ... التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! و الآن ... و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد ... أجر أذيال الخيبة و الفشل ... في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا ... يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل