الحريري حضر الى لاهاي مع كامل «عدّته» (أ ف ب)
لن تثار ضجة كبيرة في لبنان بسبب عدم تعاون الحكومة مع فريق الدفاع في المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى لو أدى ذلك الى تقديم شكوى الى مجلس الأمن. لن يكترث احد لـ «صورة لبنان امام المجتمع الدولي». المهم هو ان الادعاء العام حصل على كل معلومة محفوظة في لبنان منذ قيام الجمهورية. الادعاء العام الذي يتقن لعبة التعامل مع الاعلام في قاعة المحكمة
حسن عليق
لاهاي | لم تكن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري أمس ساحة لكباش قانوني بين فريق الادعاء وفريق الدفاع. كانت اقرب الى حلبة للتراشق الإعلامي. فريق الادعاء، بحسب احد خصومه في فريق الدفاع، يعرف ان المحاكمات ستدوم سنوات، ويعرف ان الأضواء الإعلامية المسلّطة عليها في أيامها الاولى لن تدوم. فكلما تقدم الوقت، خرجت من الضوء بسبب بيروقراطيتها وإيغالها في التفاصيل التقنية والقانونية.
امام هذا الواقع، قرر الادعاء العام اللجوء الى التشويق في ملخّص الأدلة، الذي قدمه في اليومين الماضيين. وبعد الملل الذي أشاعه عرض وكيل الادعاء العام غرايم كاميرون اول من أمس، استكمل الحديث عن حركة الاتصالات التي ينسبها فريقه الى المتهمين الخمسة، والواردة حرفياً في القرار الاتهامي المنشور قبل أشهر، لكن حبكته أمس كانت اكثر تشويقاً. عملياً، لم يظهر دليلاً إضافياً. نظريته ذاتها تقوم على «التزامن المكاني» بين مجموعات من الهواتف الخلوية التي صنّفها المحققون الدوليون «أمنية مقفلة»، وخطوات فريق تنفيذ الاغتيال، والهواتف التي رأى الادعاء انها عائدة الى المتهمين الخمسة، وحركة موكب الحريري وشاحنة الميتسوبيشي التي يرجّح انها استُخدمت لتنفيذ التفجير. الحبكة مبنية على فرضيات، تملأ الفراغات بالكلمات المناسبة لنظرية الادعاء، من دون اي دليل حسي. على سبيل المثال: أجري من الهاتف المنسوب إلى سليم عياش اتصال برقم هاتف في الضاحية، أجرى بدوره اتصالاً برقم آخر في المنطقة ذاتها قبل اكثر من ساعة على وقوع الجريمة. ثم تحرك الرقم الأخير من الضاحية نحو منطقة السان جورج، بالتزامن مع تسجيل وصول الشاحنة المفخخة. يعني هذا في رأي محققي الادعاء العام انّ من المعقول الاستنتاج ان عياش طلب من احد العاملين في مجموعته الايعاز الى سائق شاحنة الميتسوبيشي بالتوجه الى مسرح الجريمة.
وعندما تتوقف «الشبكة الأرجوانية» عن اجراء اتصالات، يصبح من المعقول الاستنتاج ان مستخدميها أنهوا إعداد شريط احمد ابو عدس!
هذه الاستنتاجات أضفى عليها كاميرون المزيد من الإثارة. تعمّد الإكثار من التفاصيل الشخصية عن الرجل المسمى سامي عيسى، جازماً بأنه هو نفسه مصطفى بدر الدين. والأخير، بحسب وكيل الادعاء، «شبح اختفى اي اثر له منذ عام ١٩٩٩ وما من صورة شخصية له منذ ذلك الحين. يملك يختاً مسجلاً بغير اسمه، وسيارة مرسيدس فخمة وشقة في بيروت غير مسجلين باسمه أيضاً. لا وجود لأي سجلات مصرفية له، ويدفع أقساط أولاده في المدرسة نقداً. لديه اكثر من «صاحبة» في الوقت عينه. يملك محلاً لبيع المجوهرات في مار الياس، وآخر في جونيه؛ يقضي جزءاً لا بأس به من وقته في المقاهي والمطاعم مع أصدقائه، ويتحرك مع مرافقين».
لم يكتف الادعاء برمي هذه «المعلومات»، بل اضفى صبغة مذهبية على كلامه. تجنّب القول ان المتهمين ينتمون الى حزب الله، لكنه استعاض عن ذلك بهويتهم المذهبية. يقول ان احدهم «مسلم شيعي»، ثم يعدد المشتركات التي بينهم، ومنها انهم من طائفة واحدة، من دون ان يأتي على ذكر انتمائهم السياسي. رمى كاميرون سهامه المذهبية بهدوء. تحدث عن الهوية الطائفية لأحمد ابو عدس (بعدما صوّره ساذجاً وقع ضحية المتآمرين)، قائلاً ان المنفذين اختاروه واختاروا طرابلس لشراء الخطوط الخلوية وشاحنة الميتسوبيشي ليقولوا ان أشخاصاً من الطائفة السنية نفّذوا الجريمة. وهذا أيضاً «استنتاج منطقي»، غير مبني على دليل او على إفادة او على اعتراف.
فريق الادعاء لم يلجأ دوما الى البوح بما أنتجته «حساباته المنطقية»، بل ترك بعض الاستنتاجات لمخيّلة المتلقي. بعض المتلقين المؤيدين لقوى ١٤ آذار رأوا في ما يقوله كاميرون حكماً مبرماً لا يمكن دحضه، فيما بعض آخر يرى أن ما قدمه الادعاء «مقنع، لكن علينا انتظار ما سيقوله الدفاع».
الدفاع لم يترك الساحة الإعلامية للادعاء. ففي قاعة المحكمة، لن يعطى الكلام قبل يوم الاثنين المقبل للمحامين الذين عيّنهم مكتب الدفاع للحفاظ على حقوق المتهمين. وأمام هجمة الادعاء، قرر جزء من الدفاع الهجوم، ولو جزئياً، عبر مؤتمر صحافي عقده في قاعة الصحافة داخل المحكمة. واكبهم الادعاء العام عبر نائب رئيس فريق التحقيق، التونسي محمد لجمي، الذي حضر أيضاً جلسات المحاكمة في اليومين الماضيين من مقاعد الجمهور. ولجمي هو المحقق الذي استمع الى إفادات السياسيين اللبنانيين (بينهم الرئيس سعد الحريري) في التسجيلات التي عرضتها قناة «الجديد» تحت عنوان «الحقيقة ليكس» قبل نحو سنتين. في قاعة الصحافة، كان لجمي يستمع إلى ما يقوله خصومه في فريق الدفاع، ويدوّن ملاحظات على ورقة، ثم غادر مبتسماً، كالعادة.
محاميا الدفاع عن مصطفى بدر الدين وحسين عنيسي، أنطوان قرقماز وفينسان كورسيل ــــ لا بروس عبّرا عن «خيبتيهما» لان الادعاء لم يأتِ بجديد. بعد تسع سنوات من التحقيق. قال قرقماز إنه «ليس من المهم ان يقول لنا المدعي العام إن فلاناً اتصل بفلان، بل عليه ان يخبرنا مضمون الاتصال، وهذا المضمون غير موجود. وقبل ذلك، عليه ان يثبت لنا ان هذا الرقم يعود إلى هذا الشخص. ما من دليل حسي يثبت المؤامرة». وبحسب قرقماز، فان المدعي العام «لم يخبرنا بعد عن دافع اغتيال الحريري». الامر ذاته اثاره كورسيل ــــ لابروس، الذي قال: حتى اليوم لا اعرف لماذا شارك من أمثّل مصالحه (عنيسي) في الجريمة. ثم أضاف: «على المدعي العام ان يقدم ادلة ثابتة، لا ان يدفع القضاء الى تخيل مضمون الاتصالات، لأن المحاكم لا تحكم بالفرضيات».
من جهته، ذكّر المحامي ياسر حسن، زميل كورسان ــــ لا بروس في الدفاع عن عنيسي، انه وزملاءه ليسوا وكلاء دفاع عن المتهمين، اي إنهم لا يمثلون المتهمين، بل جرى تعيينهم لحماية حقوق المتهمين. وفي رأي حسن «يجب النظر الى السياق التاريخي لاغتيال الحريري، الذي كان يرمي الى تغيير النظام في لبنان»، و«على المدعي العام ان يخبرنا من لديه المصلحة في أمر كهذا». المؤتمر الذي شارك فيه أيضاً محامي الدفاع عن سليم عياش، اميل عون، اختتمه المحامون رداً على أسئلة الصحافيين، بتأكيد انهم لم يحاولوا التواصل مع المتهمين. وكشفوا ان السلطات اللبنانية تعرقل عملهم، اذ انها لم تستجب لطلبات قدموها لها منذ شهر أيار الماضي.
وعلمت «الأخبار» من مصادر في المحكمة ان رئيس غرفة الدرجة الاولى في المحكمة اصدر في ١٣ كانون الثاني الجاري قراراً يطلب فيه من الحكومة اللبنانية الاستجابة لطلبات فرق الدفاع خلال مدة شهر، تحت طائلة إحالة الملف على مجلس الأمن الدولي، وهي الإجراءات التي ينص عليها قرار انشاء المحكمة والاتفاقات المعقودة بينها وبين الحكومة اللبنانية.
واللافت هنا ان فريق الدفاع لا يحظى برعاية سياسية وإعلامية كالتي يحظى بها فريق الادعاء من قبل فريق ١٤ آذار، وخاصة في كل مرة يكشف فيها عن تأخر السلطات اللبنانية بتلبية طلبات محققي مكتب المدعي العام، ولو كان التأخير لأيام قليلة.
جلسة المحاكمة أمس رفعت الى الاثنين المقبل، على ان تكون مخصصة لـ «مداخلات أولية» تُقدمها فرق الدفاع، التي تنتظر ما سيعرضه الادعاء تفصيليا لترد عليه، لكن المحامين يخشون أيضاً استمرار المدعي العام في تقديم قرارات اتهامية جديدة كل حين، ما سيؤدي الى ارجاء سير المحاكمات. ووعد الادعاء العام رئيس غرفة الدرجة الاولى القاضي دافيد راي بالبدء بتقديم الأدلة والشهود يوم الأربعاء المقبل، على ان يتسلم راي مسبقا لائحة بأسماء الشهود.
الحريري و«ملائكته»... وعنصرية في لاهاي! كان الرئيس سعد الحريري في مقعده في قاعة المحكمة أمس كالطالب المنضبط. لا يتحرك، يتابع ما يجري حوله، يسجل ملاحظات على دفتر يخرجه من جيب سترته الداخلي من وقت لآخر، ويرسم أشكالاً لا معنى لها في وقت الشرود. لكن الانضباط لم يمنعه من بعض «الشيطنة» خلال الجلسة. يلكز كبير مرافقيه عبد العرب الجالس بقربه، فيناوله الأخير تحت الطاولة قطعة حلوى يضعها الحريري في فمه بخفة.
ما ان انتهت الجلسة، حتى غادر الحريري هولندا، ومعه على الطائرة شخصيات سياسية وإعلامية أتت على طائرته وحجز لها في الفندق. خلال اليومين الماضيين كان، كما في ايام عزه في بيروت. في فندق «دس اينديس» وسط مدينة لاهاي، يستقبل مع فريق عمله شخصيات من فريق ١٤ آذار، و«وفودا شعبية»، ويدعو نقباء المحامين الحاليين والسابقين الى العشاء، ويبحث في الشأن الحكومي. جميع من يحتاج اليهم (وحتى من لا يحتاج اليهم) حاضرون. فريق عمله كاملاً. سامي الجميل، مروان حمادة، مي شدياق، علي حمادة، نوفل ضو، فريد مكاري، غطاس خوري نادر الحريري... حتى «المجتمع المدني» في ١٤ آذار لم يغب. مثّله ميشال حجي جورجيو الذي تحدث باسمه يوما على منبر ١٤ آذار. وكما في كل مناسبات فريق «العبور الى الدولة»، لا بد من النفحة العنصرية المعهودة: سيدة مجهولة تقول ان ما رأته في المحكمة دفعها للتساؤل عما اذا «كنا قادرين على العيش مع الشيعة مجددا. ٩٠ في المئة من نزلاء سجن رومية منهم»!
لم ينقصهم سوى ممثل عن القوات اللبنانية يهلل للعدالة، لكن اثنين من شخصيات ١٤ آذار الحاضرين بررا غياب حزب «الارزة والدائرة الحمراء» بـ «عدم وجود شهيد له». وفضلا عن الحضور المكتمل النصاب، حضر خطاب «ثورة الأرز» في قاعة المحكمة. المحامية ندى عبد الساتر والمحامي محمد فريد مطر، ممثلا المتضررين من جريمة ١٤ شباط، ألقيا مرافعتين انشائيتين، أشبه بخطابين استعراضيين، كررا فيهما الكثير مما يقوله خطباء ١٤ شباط، منذ ساحة الشهداء الى احتفالات البيال.
الممثل القانوني للمتضررين، المحامي البريطاني بيتر هينز، قدم مرافعة إنسانية قانونية، تحدث فيها عن جوانب من معاناة من يمثلهم، مؤكدا انه لا يرضى بالاكتفاء بما كشفه الادعاء العام بشأن الاتصالات الهاتفية. وعبّر عن خشيته من الأثر السلبي ــــ وخاصة لناحية الوقت ــــ الذي سيمثله اضافة متهم جديد كل حين الى القضية.
المصدر:http://www.al-akhbar.com/node/198912
الأربعاء يناير 29, 2014 6:59 am من طرف abuahmad