[size=29]وقفات مع بركان
آيسلندا
[b] الشيخ / محمد صالح
المنجد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على سيد المرسلين ، وبعد :
ففي دويلة صغيرة ، لا تعدو أن تكون جزيرة نائية قي شمال المحيط الأطلسي ،
يثور بركان صغير من تحت نهر جليدي ، لينفث موجات من السحب الغبارية ، فيحدث فزعاً
عاماً في قارة أوربا بأسرها ، وارتباكاً عالميا للرحلات
الدولية.
توقَّفت الطائرات،
وأُغلقت المطارات، وعُلقت الرحلات ، فـ (113) مطاراً أوروبيا يغلق أبوابه الجوية
أمام الملاحة العالمية ، وأكثر من (63 ) ألف رحلة طيران تلغى ، وخسائر شركات
الطيران تصل نحو (250) مليون دولار يومياً... والمتأثرون من الناس فاق عددهم سبعة
ملايين مسافر ، تقطعت بهم السبل ، وتحولت صالات المطارات إلى مهاجع للمسافرين ،
وبدأت المطارات بتزويدهم بالأسرة والأغطية ... فضلا عن خسائر المصدرين والمستوردين
.
لقد غدت أوروبا اليوم شبه معزولة
عن العالم الخارجي ، وهي تواجه أكبر تعطل للنقل الجوي في تاريخها ، بل عدها البعض
الأسوأ من نوعها في تاريخ الطيران المدني!!
1 ـ فاعتبروا يا أولي الأبصار
:
سحابُ غبارِ بركانٍ واحدٍ
يصيب قارة كاملة بالذعر والخوف ، ويشل حركتها الجوية ، فكيف لو تفجرت عدة براكين
؟!.
إنه لأمر يستدعى منا التأمل
والنظر ، والتفكر والاعتبار ، فالمسلم لا تمر عليه مثل هذه الأحداث العظيمة دون أن
تكون له وقفة تأمل تنطلق من عقيدته وإيمانه بالله ، ويقينه بأن كل ما يقع في كونه
من خير فهو من فضله ورحمته ، وكل ما يقع فيه من شر فهو بعلمه (ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ، وله الحكمة في كلِّ ما يقضي ويقدِّر: (لاَ يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ) .
والمؤمنيقف عند مواقع العبر، وأحكام القدر، ينظر ويتدبر ، ولا يقتصر اعتبار
المؤمن على ما يحدث قريباً منه في الزمان والمكان ، بل هو معتبر بكل ما يبلغه من
آيات الله قربت منه أو بعدت عنه زماناً ومكاناً .
2 ـ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا
تَخْوِيفاً:
فالبراكين
والزلازل جند من جند الله يرسلها على من يشاء من عباده في الوقت الذي يشاء على
النحو الذي يشاء ، إنذاراً ، ووعيداً وابتلاءً ، وتمحيصاً ، وعقاباً ، ( وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ، وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).
ومن جنود الله هذا الرماد المكون
من جزيئات صغيرة من الزجاج والصخور المفتته التي تهدد محركات الطائرات وهياكلها
وتعيق حركتها ... وقد وُصِفَ هذا الرماد بالقاتل ؛ لأن استنشاقه يمزق النسيج
الرئوي.
والاقتصار في تعليل ما حدث
بأنه مجرد أمر طبعي لا يسير إلا وفق نظم ونواميس كونية ... يدل على غفلة عن مدبر
الكون ومسيِّره ، فمن الذي يجريها وفق ذلك النظام ، ويسلطها على من يشاء وفق تقديره
وتدبيره !! .
( هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ *
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ، وَيُرْسِلُ
الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ، وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ
وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
3 ـ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى
لِلْبَشَرِ.
إن ما
حدث آية من آيات الله يرسلها لعباده تذكرة وموعظة للمؤمنين ، وتخويفاً وترهيباً
للمعرضين ، فالقلوب المؤمنة تتعظ وتخبت وتنيب لربها، والقلوب الغافلة لا يشغلها سوى
الخسائر الاقتصادية ، والمتابعة الإعلامية ، ومراقبة البركان... متناسين رب البركان
: ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ،
وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ،
أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) .
إن
من علامة قسوة القلوب وطمسها أن يسمع الناس قوارع الأحداث ، وزواجر العبر والعظات
التي تخشع لها الجبال ، ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم ، عاكفين على اتباع
شهواتهم ، غير عابئين بوعيد، ولا منصاعين لتهديد.
4 ـ المؤمن مرهف الحس حي
القلب:
يتأثر بمثل هذه
الأحوال المخيفة ، مقتدياً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا رأى ريحاً
أو غيماً عُرِفَ ذلك في وجهه ، فأقبل وأدبر ، خوفاً من نزول
عذاب.
وما ذاك إلا لرؤية غيم ،
فكيف بأعمدة من الرماد على ارتفاع (11 ) كيلومترا في الجو !! ..
وكان حاله صلى الله عليه وسلم لما
كسفت الشمس ـ تلك الآية الكونية ـ من أشد أحوال الخوف والانكسار والتضرع، حتى إنه
خرج فزعاً يجر رداءه مستعجلاً يخشى أن تكون الساعة
ومع ذلك فإننا نجد الآن من لا يتأثر ، ولا يخاف ، ولا
يتعظ؟!
5 ـ
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ:
إن ما حدث شاهد
عظيم على قدرة الله جل جلاله ، فقدرته سبحانه فوق كل قدرة، وقوته تغلب كل قوة..
أرانا عجائب قدرته، ودلائل قوته فيما خلق وقدَّر..
فما شاء الله تعالى كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل
شيء قدير ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا).
فقدرة الله لا يحدها شيء
: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا).
6 ـ عجز بني البشر
:
فهذا الإنسان كلما طغى
وتكبَّر وتجبَّر في الأرض ، وادعى الوصول لأعلى درجات الكمال والاستغناء عن خالقه ،
يبعث الله ما يبين له ضعفه وعجزه وفقره إلى مولاه: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ
الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد)
.
فماذا صنعت الدول بأجهزتها
وقوتها أمام هذا الجندي من جنود الله ... هل يستطيعون منعه أو إيقافه
؟
إنهم يشاهدون ما يحدث ، ولا
يملكون نحوه شيئًا ، مع كل ما وصلوا إليه من علوم
وتقنيات!!.
فأين قوتهم وقدرتهم،
وأين دراساتهم وأبحاثهم، ومكتشفاتهم ومخترعاتهم؟
هل دفعت لله أمرًا؟ ، أو منعت عذابًا؟ أو عطَّلت
قدراً؟!
في لحظات معدودة ينقلب
الأمن خوفاً، وتتحول مكاسب شركات الطيران إلى خسائر قدرت بمئات الملايين، وتقف قارة
بأكملها عاجزة أمام هذه الكارثة ، بالرغم مما توصلت إليه من تِقْنِيَّة علمية،
ليطلعهم الله عز وجل على مدى ضعفهم ، وقلة حيلتهم ، وليعلموا صدق قوله تعالى: (
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) .
7 ـ أين القوة المادية
؟
لطالما تبجحوا بقوتهم
وجبروتهم المادي واغتروا به ... لكن هذا التطور لم يستطع أن يفعل شيئاً أمام سحابة
من الدخان ، ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ).
فهم في غرور يهيئ لهم أنهم في أمان ، وفي حماية ، وفي
اطمئنان !! .
فلما خُيِّل إليهم
أنهم بلغوا شأواً عظيما في مجال صناعة الطيران.. أتاهم البركان على حين غرة؛ فأصاب
طيرانهم بالعجز، والخسارة الفادحة (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) .
8 ـ وما أوتيتم من العلم إلا
قليلا:
يتبع