من خوارم التربية الجادة
والآن لنفتح صفحات عاجلة من حاضرنا تنطق جميعها بفقد التربية
الجادة، أو انخفاض مستوى الجدية، ولن نستطيع الإتيان على جميع هذه الصفحات،
لكنها أمثلة عجلى تذكر بغيرها، وعلامات تدل على ما سواها من الأمراض التي
نعاني منها، ومكمن الداء فيها هو افتقاد التربية الجادة، وقد تتداخل بعض
هذه الصور، أو ترقى لتمثل وجهين لعملة واحدة، ونحن لسنا في قضية تأصيل
منطقية أو جدل فلسفي، وغاية ما نريده ربط القارئ بالواقع المتكرر الذي
يشاهده.
1- فمن خوارم التربية الجادة: الانشغال والمبالغة بالحديث عن المكاسب
والمنجزات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله، حديثاً تسوده لغة
المبالغة، فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين
الواقع العملي، وأن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض ما يقال، وقد
امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية، ولعل قراءة تقرير ختامي أو
حضور حفل اختتام نشاط معين تعطينا الدلالة على وجود هذه الظاهرة.
2- ومن خوارم التربية الجادة: لغة النقد التي يحترفها بعض الناس وتملأ
مجالسه، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج
والمؤسسات الدعوية، نقداً صارخاً لا يبقى على الأخضر واليابس، بل ويكون
النقد هدفاً يقرأ ويسمع لأجله، فهناك من وظف نفسه لهذه المهمة، وتطوع لخدمة
أعداء الدعوة بالمجان فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد
والتصنيف والإثارة؟!.
وحين تتساءل عن حاله: ماذا قدم؟! وماذا عمل؟! هل
وظف جزءاً من وقته في دعوة شاب منحرف؟! أو في إنكار منكرات عامة أو خاصة؟!
أو دعوة غير مسلم للإسلام؟! أو سهر على محتاج أو أرملة؟! ترى البون الشاسع
بين واقعه ومقاله!.
إن غالب هذا الصنف لا ترى له أثراً عملياً، بل لعل
النقد وسيلة نفسية يتهرب بها من العمل، أليس هذا من عاجل العقوبة أن يحرم
العمل حيث يعمل الناس، ويسلب بركة الإنتاج حيث يتسابق إليها الناس؟!.
3-
ومن خوارم التربية الجادة: كثرة الشكوى من مشكلات الواقع ومشكلات العمل
الإسلامي، ومشكلات الشباب والدعوة..... إلى نهاية هذه القائمة الطويلة، وهي
غالباً ما تكون شكوى صادقة لكنها تأخذ مساحة من التفكير، وينطبع أثرها على
السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس، وقد يتخيل بعض
الخيرين أن هذا دليل على جدية الاهتمام ومؤشر خير، لكن الرجل الجاد الذي
أخذ على عاتقه هم العمل وشعر أنه هو الهدف والمطلب الأساس، يرى أن استطراده
في اجترار المشكلات وكثرة الحديث عنها لا يجدي، فوق أنه يشغل عن العمل.
وهذا
لا يعني رفض مناقشة المشكلات والسؤال عن حلولها، لكنه شيء آخر غير تلك
الروح التي سيطرت على بعض الخيرين، فأصبح لا يجيد إلا هذه اللغة، ولا يتقن
إلا هذا المنطق.
4- ومن خوارم التربية الجادة: الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو
مضايقه، والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد، إلى غير ذلك من
الأعذار.
شاب يدرِّس في مدرسة، أو يعمل في مؤسسة، أو يَدْرس في جامعة في
أي مكان على عرض العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه، وتوصد بعض الأبواب
أمامه، فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح تلك الأبواب، أو يطلب الانتقال من
هذا المجال إلى مجال آخر، أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟!
وهل كان أنبياء الله أو الدعاة والمصلحون كذلك؟! بل ودعاة الطوائف وحملة
المذاهب الأرضية يعانون ما يعانون، ومع ذلك يبذلون ما يطيقون، مع ضعف
الثمرة وقلة النتاج، وسوء النية فوق ذلك كله.
فلم لا تأخذ التربية على
عاتقها إعداد صنف من العاملين يعملون على كافة الأحوال وسائر الظروف
والأوضاع؟! إن الجيل الذي لا يعمل إلا من خلال قنوات محددة، أو وسط ترحيب
وعناية الآخرين ليس هو الجيل المؤهل للتغيير، ولن يرقى الجيل لذلك حتى يدرك
أن من مسئوليته فتح الأبواب والبحث عن المجالات التي لا تقل مسئولية عن
العمل ذاته.
5- ومن خوارم التربية الجادة: الاكتفاء بمجرد الانتماء
لركب الصحوة والمصاحبة الخيرة دون أي جهد أو مشاركة، أو الاقتصار على حمل
المشاعر المؤيدة للخير وأهله، وحضور المنتديات والدروس دون أدنى خطوة
إيجابية أو مشاركة فعالة، ويتصور أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب
والإياب واللقاء مع الأخيار والتفاعل مع الأنشطة الإسلامية يكفي حتى يكون
مندرجاً في قطار الدعاة إلى الله.
وكم يدور في مجالس المثقفين وأنصاف
المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، فليت الدعاة
يصنعون كذا، وليتهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول، ويتجنبون ذاك،
وهي مقترحات جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس، والمتحدث
يعبث بمسبحته، أو يهز يده، ويتوقف الأمر عند هذا الحد، دون خطوة عملية.
وتأمل
في الساحة الإسلامية بالله عليك لترى كم نسبة أولئك الذين لا يؤهلهم
للانتساب للصحوة إلا مجرد التفاعل مع بعض المناشط الإسلامية، والمشاركة في
الحديث عن القضايا المطروحة في الساحة؟! أليس هذا الصنف مبعثاً على أزمة
الطاقات والجفاف المدقع من العاملين الذي تعانيه المناشط الإسلامية؟!
وهذا
المنطق والحديث يمثل تنفيساً عن الشعور المختلج في النفس بضرورة العمل
للإسلام والمشاركة، وهو تنفيس غير طبيعي فنحن أحوج ما نكون إلى استجماع
الطاقة لا تبديدها.
6- ومن خوارم التربية الجادة: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع: نقداً
وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، ويأخذ الحديث ساعات طوالاً، دون أن
يتمخض عن توصيات عملية، أو مقترحات فعالة توضع موضع التنفيذ، ويكفي أن تبدأ
موضوعاً أو تشير إلى جانب من الجوانب الاجتماعية، ليتتابع الجميع في عرض
الصور والمواقف والشواهد، وهو حديث يسيطر على كثير من مجالس الأخيار،
ويستولي على أوقات ثمينة لهم، ويظن أصحابه أنه حديث إيجابي.
لكن تفكيراً
متأنياً يقودنا إلى الاقتناع أنه ليس ثمة فائدة عملية من وراء ذلك الحديث،
بل هناك نتائج سلبية، ليس أقلها خروج الجميع من مثل هذه المجالس بقدر من
الإحباط، وسيطرة عبارة: (هلك الناس) على تفكيرهم ومقالهم، وهذا الشعور
اليائس له دور بارز في تبديد كل طاقة للعمل، وتفتيت كل حماسة للإنتاج، وهذا
ليس دعوة لإلغاء الحديث في انتقاد الواقع فهو أمر مطلوب ونوع من الإنكار،
لكنه حين يكون حديثاً فقط فهو لا يزيد على امتصاص الحماسة والتنفيس عن
معاناة نحن أحوج إلى استثمارها في عمل منتج.
7- ومن خوارم الجدية: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة
من الأعداء في الداخل والخارج، حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله
رويداً: (فالسيل لن تسده بعباءتك... لست وكيلاً لآدم على ذريته... لكم
دينكم ولي دين) إلى آخر تلك القائمة الطويلة من المعاذير، بل الاعتراضات
على أوامر الله.
إن الحديث عن الأعداء وتآمرهم مطلب، وإن الشعور
بالمعركة أمر له أهميته، لكن هذا شيء آخر غير حديث هذا الصنف الذي لا يتبعه
جهد ولا عمل.
أما حين يكون ذلك الحديث للمدارسة، وشحذ الهمم، وكشف الألاعيب، ووضوح سبيل المجرمين، فهذا جزء من الواجب.
8- ومن خوارم الجدية: تدافع المسؤوليات والأدوار، وإلقاء التبعات على
الآخرين، قد يسوغ هذا السلوك لموظف في شركة أو عامل بناء يتمنى الخلاص من
العمل ليتولاه غيره ويلقي التبعة على سواه، أما الذين يدركون قيمة العمل إذ
هو مطلب لهم فنجاحه يهمهم، ومساهمتهم يعتبرون أنها فرصة سانحة يعد التخلف
عنها تفويتاً دون مقابل، أولئك لهم شأن آخر وحال مغايرة.
نعم فتدافع
الفتيا مثلاً أمرٌ مشروع، وتدافع الإمارة كان من هدي السلف، لكن ذلك في
حدود من يتولى الأمر فلان أم فلان، أما بعد ذلك فلابد من البت وقطع الأمر،
ولم نر أن ولاية للمسلمين عطلت، أو أن مستفتياً لم يجد من يفتيه.
9- ومن خوارم الجدية: التواضع المصطنع، وهو نموذج يتكرر كثيراً، وإجابة
تسبق طلبك في أحايين ليست بالقليلة سوف تسمع: (لا أستطيع، لا أقدر، الله
المستعان، ومتى كنا أهلاً لذلك، هناك من هو خير مني...). عبارات نسمعها من
طائفة من الناس حين يدعون للخير، ويطلب منهم مشاركة في أمور الدعوة.
إن
التواضع خلق شرعي، ومقت النفس وذمها هدي راتب من هدي السلف لا يسوغ الإخلال
به، لكن أن يكون عائقاً عن العمل، ومثبطاً عن المشاركة فهذا شيء آخر، لقد
كان من السلف من يتصدى لنشر العلم وللفتيا وللقضاء وللدعوة ولإنكار المنكر،
مع كل هذا المقت لأنفسهم واستشعار أنها دون ما ينبغي أن تكون عليه، ومهما
أوتي المرء فلن يكون أكثر منهم مقتاً لنفسه، وحتى أولئك الذين تركوا عملاً
أو ميداناً من الميادين شغله غيرهم.
إن هناك طائفة يدفعهم شعور صادق،
وإحساس بالقصور فعلاً - مع أن هذا ليس عذراً - لكن ثمة فئةٌ ليست بالقليلة
لو كانوا واقعيين مع أنفسهم لوجدوا أن العذر الحقيقي العجز والكسل لا غير،
وشاهد ذلك أنهم يرون العاملين في ميادين كثيرة دونهم في جميع المعايير،
وتسمع منهم الانتقاد كثيراً والحديث عن الأخطاء، ولو كان أولئك جادين
فعلاً، لدفعهم الانتقاد إلى الشعور بالحاجة، ومن ثم العمل بعد ذلك، لكن حين
يعرف السبب يبطل العجب.
أليس هذا الصنف من التواضع المصطنع ثمرةٌ سيئة لتخلف التربية الجادة؟!
وما الفرق بين أن يسابق المرء لقيام الليل وصيام النفل، أو يسابق لميادين الدعوة إلى الله والمشاركة فيها؟!.
إنك
تُدهش حين تتأمل واقع الأمة المرير، وحاجتها لكل طاقات أبنائها على اختلاف
مستوياتهم وقدراتهم، وترى في المقابل واقع ذلك الصنف من الناس الذي يتخلى
عن العمل، ويمتنع عن المشاركة بحجة أنه ليس أهلاً، ولن تستطيع تفسير هذه
الظاهرة، أو حل هذا اللغز إلا أنه فقد الجدية.
10- ومن خوارم الجدية: سوء التعامل مع الوقت، والحديث عن أهمية الوقت
وضرورة استغلاله أصبح أمراً يدركه الجميع ويتحدث عنه الكثير، لكن كيف يقضي
كثير من المنتسبين لجيل الصحوة أوقاتهم؟!
إن الاعتذار بضيق الوقت يسبق
كل تكليف، ويتقدم كل طلب للمشاركة أو دعوة للعمل، وهو ديباجة تقدم بين يدي
المحاضرة، وفي مقدمة الكتاب، وبداية الدرس.
لكن ضيَّق الوقت هذا يمكن أن
يجد فرصة بكل سهولة لحضور وليمة تستغرق ساعات طويلة، ويستطيع أن يقابل
عدداً من الأصدقاء والزملاء في جلسات منوعة، لا يجمعها إلا أنها على غير
نتيجة أو عمل ذي بال.
أليس الأولى أن تعكس الصورة فيُعتذر عن هذه ويُستجاب لتلك؟!
وهو
مع ذلك يجد وقتاً واسعاً لكتابة بحث ترقية، أو تقديم رسالة علمية! أو مهمة
رسمية تتطلب منه سفراً قد يطول وينأى، ولسنا نعترض على هذه المجالات، أو
نحسد هؤلاء في أرزاقهم، لكن من يستطيع أن يجد لها وقتاً يستطيع لما سواها
إذا كان جاداً.
ولعل من مقاييس اعتناء المرء بوقته كيفية قضائه لوقت
الراحة والإجازة، ذلك أن العناية باستثمارها والحرص على استغلالها يحل
كثيراً من المشكلات التي نعرضها حول ضيق الوقت واستثماره.
إن الرجل
الجاد يدرك قيمة الوقت والتفرغ، ومن ثم فله نظرة أخرى لأوقات الراحة
والإجازة، في حين يتعامل معها غيره بصورة أكثر إهمالاً وفوضى.
وليست هذه
دعوة إلى إرهاق النفس وهضمها حقوقها، لكن ومع أن لنفس الإنسان حقاً عليه
فلا يعني ذلك أن تضيع أوقاته النفيسة هدراً، فإذا كانت الإجازة للراحة،
وحين تنتهي فهو منشغل بهموم عمله الرسمي وأمور منزله وأولاده، ووقته ضيق عن
المشاركة أكثر في ميادين الدعوة، فمتى يجد الوقت المناسب يا ترى؟! الإجابة
باختصار وبصراحة حين يكون جاداً يستطيع أن يجد الوقت المناسب.
11-
ومن خوارم الجدية: الإغراق في قيل وقال؛ إذ تختار النفس هذا المسلك حين
تنصرف عن الاهتمامات العالية الطموحة، فيسيطر ذلك على حديث المرء في الحديث
عن الناس، وتقييمهم - والغالب في ذلك مجانبة العدل - والحديث عن أمور
الدنيا، وآخر أخبار الناس، إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لا توصف بأصدق
من قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال،
وإضاعة المال". [رواه البخاري 2408، ومسلم 593].