زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في
طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين
الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة،
يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).
عباد الله، لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم
فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى،
وأخذهم بجدِّ وقوة العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين
يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها
وصغارها.
عباد الله، إن الشاب في فترات تكوينه يمر بمراحل، كل مرحلة أهمّ من الأخرى.
ألا وإن من أهم تلك المراحل مرحلة الطفولة، فهي السن الذي يتعرف فيه الطفل
على مجريات الحياة، فيعرف الصحيح، ويعرف الخطأ، ويعلم الصواب، ويتعوّد على
الغلط، ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرنه أو
يمجسانه)).
لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون
بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن
الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين والحكماء والأتقياء.
عباد الله، محمد سيد ولد آدم وأعظم الناس مكانة هو القدوة في كل شيء، ولقد
راعى الأطفال واهتم بأمرهم. ألا فليقتد بذلك الناصحون، لم يكن يتضجر ولا
يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم.
وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته لأطفاله :
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع
النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع
رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود
عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة:
فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما:
((الحقا بأمكما))، فمكث ضوؤها حتى دخلا.
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي
قميص أصفر، فقال رسول الله : ((سنه سنه))، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب
بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي
وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي))، فعمرت أم خالد بعد ذلك. رواه البخاري.
ولما جاءت أم قيس بنت محصن إلى رسول الله بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام،
فحمله رسول الله فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وتقول
أم الفضل رضي الله عنها: بال الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي ،
فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: ((إنما
ينضج من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى)) رواه الثلاثة.
عباد الله، لقد كان يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم
ويضاحكهم. روى الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن
مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن
علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق
الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل
إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: ((حسين
مني وأنا من حسين)).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول
الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ،
ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه))، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر
رسول الله ، ثم قال رسول الله : ((افتح فاك))، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم
أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع:
أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من
الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا
يرحم)) متفق عليه.
أيها الناس، لقد بلغ من عناية الرسول بأطفاله أن ألقى لهم باله حتى أثناء
تأديته للعبادة، يقول أبو قتادة: كان رسول الله يصلي وهو حامل أمامة بنت
بنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وكان إذا سمع بكاء الصبي وهو
في صلاته تجوّز فيها مخالفة الشفقة من أمه. متفق عليهما.
وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران
يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم
قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت
حديثي ورفعتهما))، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.
عباد الله، هذا رسول الله ، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟!
روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله ،
وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل
بيمينك، وكل مما يليك)). ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال
له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن
النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من
كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)).
إن عناية المصطفى تستمر معهم حتى بعد بلوغهم مبلغ الرجال، يقول علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: كانت فاطمة بنت رسول الله عندي، وكانت أحبّ أهله
إليه، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها،
وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكِنت ثيابها، وأصابها من
ذلك ضرّ، فسمعنا أن رقيقًا أتِي بهم النبيّ فقلت: لو أتيتِ أباك فسألتيه
خادمًا يكفيك، فأتته فوجدت عنده ناسًا فاستحيت فرجعت، يقول علي: فغدا علينا
رسول الله من الليل ونحن في لفاعنا ـ أي: لحافنا ـ قد أخذنا مضاجعنا،
فذهبنا لنقوم فقال: ((مكانكما))، ثم جلس بيننا، وأدخل قدمه بيني وبين
فاطمة، وجلس عند رأسها، فأدخلت فاطمة رأسها في اللفاع حياءً من أبيها،
فقال: ((ما كان حاجتُك أمس إلى آل محمد؟)) فسكتت، فقلت: أنا والله أحدّثك
يا رسول الله، إنّ هذه جرّت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة
حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت
ثيابها، وخبزت حتى تغير وجهها، وبلَغَنا أنه قد أتاك رقيق فقلت: سليه
خادمًا، فقال : ((أوَلاَ أدلّكما على ما هو خير لكما من خادم؟! إذا أويتما
إلى فراشكما فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا
أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود
واللفظ له.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة،
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو
الغفور الرحيم.