ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أن القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف
، أي لغات من لغات العرب ولهجاتها؛ تيسيرًا لتلاوتها عليهم، رحمة من الله
بهم، ونقل ذلك نقلا متواترًا، وصدق ذلك واقع القرآن، وما وجد فيه من
القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد، ليس تعدادها عن تحريف، أو تبديل ولا
لبس في معانيها، ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضًا،
ويبين مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات، فيفيد كل منها حكمًا يحقق
مقصدًا من مقاصد الشرع، ومصلحة من مصالح العباد مع اتساق معانيها وائتلاف
مراميها، وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة، لا تعارض بينها ولا تضارب
فيها.
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل، وهي قوله -تعالى-:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
فقد قرئ (ونخرج ) بضم النون وكسر الراء ، وقرئ (يلقاه) بفتح الياء والقاف
مخففة، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابًا، هو صحيفة عمله،
يعطى الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحًا، فيأخذه بيمينه، إن كان سعيدا،
وبشماله إن كان شقيا، وقرئ ( يلقاه منشورا ) بضم الياء وتشديد القاف،
والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا، هو صحيفة عمله، يعطى
الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحا، فمعنى كل من القراءتين يتفق في
النهاية مع الآخر، كأن من يلقى إليه الكتاب، فقد وصل إليه، ومن وصل إليه
الكتاب، فقد ألقي إليه.
ومن ذلك قوله -تعالى-:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
قُرِئَ "يَكْذِبون" بفتح الياء وسكون الكاف وكسر الذال، بمعنى : يخبرون
بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، وقد قرئ "يُكَذِّبون" بضم الياء وفتح
الكاف وتشديد الذال المكسورة، بمعنى يكذبون الرسل، فيما جاءوا به من عند
الله من الوحي، فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر، ولا يناقضه بل كل
منهما ذكر وصفًا من أوصاف المنافقين: وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن
الله ورسله وعن الناس، ووصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله فيما أوحي إليهم
من التشريع، وكل حق، فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات، كان بوحي من الله لحكمة، لا عن تحريف
وتبديل، وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة، ولا تناقض، أو اضطراب، بل معانيها
مؤتلفة ومقاصدها متفقة.