قال شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: إن أصح الطرق
في ذلك أن يفسرالقرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر،
وما اختصر من مكان، فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك، فعليك بالسنة،
فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن
إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه
من القرآن، قال الله -تعالى-:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
، وقال تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
، وقال تعالى:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه
، يعني السنة.
والسنة- أيضًا- تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تتلى كما
يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة، ليس
هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تتطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة. كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:
بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال:
فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
صدره وقال: الحمد لله، الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله
، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد.
وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى
أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي
اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا
سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة
المهديين، مثل: عبد الله بن مسعود. .
قال الإمام أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال:
أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد
الله بن مسعود -رضي الله عنه- : "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب
الله ، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب
الله مني تناله المطايا لأتيته".
وقال الأعمش- أيضًا- عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
ومنهم الحبر البحر (عبد الله بن عباس) ابن عم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له
حيث قال:
اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود-:
"نعم ترجمان القرآن ابن عباس"
.
ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال:
نعم الترجمان للقرآن ابن عباس
.
ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك.
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد
مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستا
وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ .
وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم،
فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة -وفي رواية سورة النور- ففسرها
تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم؛ لأسلموا.
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن
هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهما ما
يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حيث قال:
بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار
رواه البخاري
عن عبد الله بن عمرو. .
ولهذا كان عبد الله بن عمرو، قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل
الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه
الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
.
(أحدها): ما علمنا صحته مما بأيدينا، مما يشهد له بالصدق فذلك صحيح. .
و (الثاني): ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. .
و (الثالث): ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل،
فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك ما لا فائدة فيه
تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي
عن المفسرين خلاف بسبب ذلك. .
كما يذكرون في مثل هذا: أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا
موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين
البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى،
إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على
المكلفين في دنياهم ولا دينهم. .
ولكن نقل الخلاف عنهم فى ذلك جائز، كما قال تعالى:
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ
سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا
يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا
وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا
.
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما
ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين
الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته، إذا لو كان باطلا لرده كما ردهما. .
ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: (
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس
ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً
ظَاهِرًا ) أي لا تجهد نفسك، فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم
لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. .
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستَوعب الأقوال في ذلك
المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويُبطل الباطل، وتُذكر فائدة الخلاف
وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم.
.
فأما من حكى خلافًا في مسألة، ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛
إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على
الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا، فإن صحح غيرالصحيح عامدًا، فقد تعمد
الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ. .
كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظًا،
ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح،
فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب. .
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة،
فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين (كمجاهد بن جبر) فإنه
كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا إبان بن صالح عن مجاهد
قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند
كل آية منه وأسأله عنها. .
وبه إلى الترمذي، قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة، قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا. .
وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش ،
قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود، لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن
كثير من القرآن مما سألت. .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي
عن ابن أبي مليكة، قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه
ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب. حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان
سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. .
وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن
البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس،
وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر
أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم
عنده اختلافًا، فيحكيها أقوالا وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء
بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير
من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي. .
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف
تكون حجة في التفسير؟ يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا
صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء، فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا، فلا
يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة
القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.