مصدر الموضوع الاصلي: بلال بن رباح ( الساخر من الأهوال )
رجال حول الرسول
(
صلّى
الله
عليه وسلّم )
بلال بن رباح
( الساخر من الأهوال
)
كان عمر بن الخطاب,
إذا ذكر أبو بكر قال:
" أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
يعني بلالا رضي
الله عنه..
وإن رجلا يلقبه
عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
لكن هذا الرجل
الشديد السمرة, النحيف الناحل, المفرط الطول الكث الشعر, الخفيف العارضين, لم يكن
يسمع كلمات المدح والثناء توجه
إليه, وتغدق عليه, إلا ويحني رأسه ويغض طرفه, ويقول
وعبراته على وجنتيه تسيل:
"إنما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
فمن هذا الحبشي
الذي كان بالأمس عبدا..!!
انه "بلال بن
رباح" مؤذن الإسلام , ومزعج الأصنام..
انه
إحدى معجزات
الإيمان والصدق.
إحدى معجزات
الإسلام العظيم..
في كل عشرة
مسلمين. منذ بدأ
الإسلام إلى اليوم, وإلى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل
يعرفون بلالا..
أي
إن هناك مئات
الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا, وحفظوا اسمه, وعرفوا دوره.
تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في
الإسلام : أبي بكر وعمر...!!
وانك لتسأل الطفل
الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر, أو باكستان, أو الصين..
وفي الأمريكيتين,
وأوروبا وروسيا..
وفي
العراق ,
وسوريا, وإيران والسودان..
في تونس والمغرب
والجزائر..
في أعماق
أفريقيا, وفوق هضاب آسيا..
في كل
بقعة من
الأرض يقتنها مسلمون, تستطيع
إن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
فيجيبك: انه مؤذن
الرسول.. وانه العبد الذي
كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه,
فيقول:
"أحد.. أحد.."
وحينما تبصر
هذا الخلود الذي منحه
الإسلام بلالا.. فاعلم
إن بلال هذا, لم يكن قبل
الإسلام أكثر
من عبد رقيق, يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر, حتى يطو به الموت, ويطوّح به
إلى
أعماق النسيان..
لكن صدق
إيمانه,
وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته, وفي تاريخه مكان ا عليّا في
الإسلام بين
العظماء والشرفاء والكرماء...
إن كثيرا من
عليّة البشر, وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم, لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر
به بلال العبد الحبشي..!!
بل
إن كثيرا من
أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
إن سواد بشرته,
وتواضع حسبه ونسبه, وهوانه على
الإنس كعبد رقيق, لم يحرمه حين آثر
الإسلام دينا, من
إن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه, وطهره, وتفانيه..
إن ذلك كله لم
يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب,
إلا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير
مظانها..
فلقد
كان الناس
يظنون إن عبدا مثل بلال, ينتمي
إلى أصول غريبة.. ليس له أهل, ولا حول, ولا يملك من
حياته شيئا, فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده
وإبله
وماشيته..
كانوا يظنون
إن مثل هذا الكائن, لا يمكن
أن يقدر على شيء ولا
أن يكون شيئا..
ثم اذا هو يخلف
الظنون جميعا, فيقدر على
إيمان, هيهات إن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن
للرسول والإسلام العمل الذي
كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين
أسلموا واتبعوا الرسول..!!
أجل.. بلال بن
رباح!
أيّة بطولة..
وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
انه حبشي من
أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة, حيث
كان ت أمه إحدى إمائهم
وجواريهم..
كان يعيش عيشة
الرقيق, تمضي أيامه متشابهة قاحلة, لا حق له في يومه, ولا أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء
محمد تنادي سمعه, حين أخذ
الإنس في مكة يتناقلونها, وحين
كان يصغي إلى أحاديث
ساداته وأضيافهم, سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي
كان بلال أحد
عبيدها..
لطالما سمع أمية
وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا, وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا,
وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون, الصفات
التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما
كان ت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه
وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم
يعجبون, ويحارون, في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم
لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وإن
لم يكن لنا بد من وصمه
اليوم بذلك كله, حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون
إلى دينه..!!
سمعهم يتحدّثون
عن أمانته..
عن وفائه..
عن رجولته
وخلقه..
عن نزاهته ورجاحة
عقله..
وسمعهم يتهامسون
بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته, تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف
على مجد قريش ثانيا, ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني, كعاصمة للعبادة
والنسك في جزيرة العرب كلها, ثم الحقد على بني هاشم,
إن يخرج منهم دون غيرهم نبي
ورسول...!
وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله, ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه,
فيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويسلم..
ولا يلبث خبر
إسلامه إن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها
الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في
إسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي
يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة
لنفسه: ومع هذا فلا بأس..
إن شمس هذا اليوم لن تغرب
إلا ويغرب معها إسلام هذا العبد
الآبق..!!
ولكن الشمس لم
تغرب قط بإسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها, وحماة الوثنية فيها...!
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا
للإسلام وحده, وإن كان الإسلام أحق
به, ولكنه شرف
للإنسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى
ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام.
ولكان ما جعله
الله مثلا على
إن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا
ينالان من عظمة الروح اذا وجدت
إيمانها, واعتصمت بباريها, وتشبثت بحقها..
لقد أعطى بلال
درسا بليغا للذين في زمانه, وفي كل مكان, للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه
إن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا, ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا
فوق الجمر, على
إن يزيغ عن دينه, أو يزيف اقتناعه فأبى..
لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام, والإسلام , من هذا العبد الحبشي
المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير, والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد
كان ويخرجون
به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها
إلى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها
الملتهب وهو عريان, ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكان ه بضعة رجال, ويلقون
به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا
العذاب الوحشي كل يوم, حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه, فرضوا آخر
الأمر إن يخلوا سبيله, على
إن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم,
ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم
وإصراره..
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع
إن يلقيها من وراء
قلبه, ويشتري بها حياته نفسه, دون
إن يفقد إيمانه, ويتخلى عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة
الواحدة رفض بلال
إن يقولها..!
نعم لقد رفض
إن يقولها, وصار يردد مكان ها نشيده الخالد:"أحد أحد"
يقولون له: قل
كما نقول..
فيجيبهم في تهكم
عجيب وسخرية كاوية:
"إن لساني لا يحسنه"..!!
ويظل بلال في ذوب
الحميم وصخره, حتى اذا حان الأصيل أقاموه, وجعلوا في عنقه حبلا, ثم أمروا صبيانهم
إن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد
أحد".
وكان ي اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
غدا قل كلمات خير
في آلهتنا, قل ربي اللات والعزى, لنذرك وشأنك, فقد تعبنا من تعذيبك, حتى لكان
لنا نحن
المعذبون!
فيهز رأسه
ويقول:" أحد.. أحد..".
ويلكزه أمية بن
خلف وينفجر غمّا وغيظا, ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى
لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في
يقين المؤمن وعظمة القديس:
"أحد.. أحد.."
ويعود للحديث
والمساومة, من وكل
إليه تمثيل دور المشفق عليه, فيقول:
خل عنك يا
أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم,
إن بلالا منا أمه جاريتنا, وانه لن يرضى
إن يجعلنا بإسلامه حديث قريش وسخريّتها..
ويحدّق بلال في
الوجوه الكاذبة الماكرة, ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر, ويقول في هدوء يزلزلهم
زلزالا:
"أحد.. أحد.."
وتجيء الغداة
وتقترب الظهيرة, ويؤخذ بلال
إلى الرمضاء, وهو صابر محتسب, صامد ثابت.
ويذهب
إليهم أبو
بكر الصديق وهو يعذبونه, ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا
إن يقول ربي الله)؟؟
ثم يصيح في أميّة
بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
وكان ما
كان أمية
يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ كان اليأس من
تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده, ولأنهم
كانوا من التجار, فقد
أدركوا إن بيعه
أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر
الذي حرّره من فوره, وأخذ بلال مكان ه بين الرجال الأحرار...
وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به
إلى الحرية قال له أمية:
خذه, فواللات
والعزى, لو أبيت
إلا إن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما
في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
ولكن
لأن فيها
مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له, وندّا,أجاب أمية قائلا:
والله لو أبيتم
أنتم إلا مائة أوقية لدفعتها..!!
وانطلق بصاحبه
إلى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
وبعد هجرة الرسول
والمسلمين إلى المدينة, واستقرارهم بها, يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
فمن يكون المؤذن
للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي
صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
لقد وقع اختيار
الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن
للإسلام.
وبصوته النديّ
الشجيّ مضى يملأ الأفئدة
إيمانا, والأسماع روعة وهو ينادى:
الله أكبر.. الله
أكبر
الله أكبر ..
الله أكبر
أشهد
أن لا إله إلا الله
أشهد
أن لا اله
إلا الله
أشهد
أن محمدا
رسول الله
أشهد
أن محمدا
رسول الله
حي على الصلاة
حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على الفلاح
الله أكبر.. الله
أكبر
لا إله
إلا
الله...
ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم
إلى المدينة غازيا..
وتدور الحرب
عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها
الإسلام , غزوة بدر..
تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام
أن يكون شعارها: "أحد..أحد".
في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها, وخرج أشرافها جميعا
لمصارعهم..!!
ولقد همّ بالنكوص
عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال, والذي كان يعذبه في وحشيّة
قاتلة..
همّ بالنكوص لولا
إن ذهب إليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ
تخاذله وتقاعسه, حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه, ألقى
الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي, استجمر بهذا,
فإنما أنت من النساء..!!!
وصاح به أمية
قائلا: قبحك الله, وقبّح ما جئت به..
ثم لم يجد بدّا
من الخروج مع الغزاة فخرج..
أيّة أسرار
للقدر, يطويها وينشرها..؟
لقد كان عقبة بن
أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال, وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
واليوم هو نفسه
الذي يغريه بالخروج
إلى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
كما سيكون فيها
مصرع عقبة أيضا!
لقد كان أمية من
القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!
ولكن الله بالغ
أمره, فليخرج أمية فإن بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما, جاء أوان تصفيته,
فالديّان لا يموت, وكما تدينون تدانون..!!
وإن القدر ليحلو له
أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي
لتحريضه, ويسارع
إلى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء, هو نفسه الذب سيقود أميّة
إلى مصرعه..
وبيد من..؟
بيد بلال نفسه..
وبلال وحده!!
نفس اليد التي
طوّقها أميّة بالسلاسل, وأوجع صاحبها ضربا, وعذابا..
مع هذه اليد
ذاتها, هي اليوم, وفي غزوة بدر, على موعد أجاد القدر توقيته, مع جلاد قريش الذي أذل
المؤمنين بغيا وعدوا..
ولقد حدث هذا
تماما..
وحين بدأ القتال بين الفريقين, وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين
بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية, وجاءه النذير..
إن الكلمة التي
كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار
الأمة الجديدة كلها..!!
"أحد..أحد"؟؟!!
أهكذا..؟ وبهذه
السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
وبينما المعركة
تقترب من نهايتها, لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله, فاحتمى به,
وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء
إن يخلص بحياته..
وقبل عبد الرحمن
عرضه وأجاره, ثم سار به وسط العمعمة
إلى مكان السرى.
وفي الطريق لمح
بلال فصاح قائلا:
"رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت
إن نجا".
ورفع سيفه ليقطف
الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر, فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
"أي بلال.. إنه أسيري".
أسير والحرب
مشبوبة دائرة..؟
أسير وسيفه يقطر
دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
لا.. ذلك في رأي
بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..
سخر حتى لم يترك
من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم, وهذا المأزق, وهذا المصير..!!
ورأى بلال أنه لن
يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف, فصاح بأعلى صوته في
المسلمين:
"يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف, لا نجوت
إن نجا"...!
وأقبلت كوكبة من
المسلمين تقطر سيوفهم المنايا, وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف
أن يصنع شيئا..
وألقى بلال على
جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة, ثم هرول عنه مسرعا وصوته
النديّ يصيح:
"أحد.. أحد.."
لا أظن
أن من حقنا
أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا
المقام..
فلو
أن اللقاء
بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى, لجاز
لنا أن
نسال بلالا حق التسامح, وما كان لرجل
في مثل إيمانه وتقاه
أن يبخل به.
لكن اللقاء الذي
تم بينهما, كان في حرب, جاءها كل فريق ليفني غريمه..
السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب, ثم يبصر بلال أمية
الذي لم يترك في جسده موضع أنملة
إلا ويحمل آثار تعذيب.
وأين يبصره
وكيف..؟
يبصره في ساحة
الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين, ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ
لطوّح به..
في ظروف كهذه
يلتقي الرجلان فيها, لا يكون من المنطق العادل في شيء
إن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح
الصفح الجميل..؟؟
وتمضي الأيام وتفتح مكة..
ويدخلها الرسول
شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
ويتوجه
إلى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!
لقد جاء الحق
وزهق الباطل..
ومن اليوم لا
عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الإنسان بعد اليوم هامته لحجر, ولا وثن.. ولن
يعبد الناس ملء ضمائرهم
إلا الله إلي ليس كمثله شيء, الواحد الأحد, الكبير
المتعال..
ويدخل الرسول
الكعبة, مصطحبا معه بلال..!
ولا يكاد يدخلها
حتى يواجه تمثالا منحوتا, يمثل
إبراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام, فيغضب
الرسول ويقول:
"قاتلهم الله..
ما كان
شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان
حنيفا مسلما وما كان من المشركين".
ويأمر بلال
أن يعلو ظهر المسجد, ويؤذن.
ويؤذن بلال..
فيالروعة الزمان,
والمكان , والمناسبة..!!
كفت الحياة في
مكة عن الحركة, ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة, تردد في خشوع وهمس كلمات
الأذان وراء بلال.
والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
أهذا هو محمد
وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
أهذا هو حقا,
ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
أهذا هو حقا الذي
قاتلناه, وطاردناه, وقتلنا أحب الناس
إليه..؟
أهذا هو حقا الذي
كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه, ويقول لنا:
"اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!
ولكن ثلاثة من أشراف قريش,
كانوا جلوسا بفناء الكعبة, وكان ما يلفحهم مشهد
بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه, ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في
آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
أما هؤلاء
الثلاثة فهم, أبو سفيان
بن حرب, وكان قد أسلم منذ ساعات, وعتّاب بن أسيد, والحارث بن
هشام, وكان لم يسلما بعد.
قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
لقد أكرم الله
أسيدا, ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
أما والله لو
أعلم إن محمدا محق لاتبعته..!!
وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
إني لا أقول
شيئا, فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم, وقرأ وجوههم
في لحظة, قال وعيناه تتألقان بنور الله, وفرحة النصر:
قد علمت الذي
قلتم..!!!
ومضى يحدثهم بما
قالوا..
فصاح الحارث
وعتاب:
نشهد أنك رسول
الله, والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
واستقبلا بلال
بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:
" يامعشر قريش..
إن الله قد أذهب
عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
الناس من آدم
وآدم من تراب"..
وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشهد معه المشاهد كلها, يؤذن
للصلاة, ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات
إلى النور, ومن
الرق إلى الحريّة..
وعلا شأن
الإسلام ,
وعلا معه شأن المسلمين, وكان
بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..
لكن بلالا بقي
كما هو كريما متواضعا, لا يرى نفسه إلا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!
ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
"أنا بلال, هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. وكنا عبدين
فأعتقنا الله..
إن تزوّجونا فالحمد لله.. وإن تمنعونا فالله أكبر.."!!
وذهب الرسول
إلى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا, ونهض بأمر المسلمين من بعده
خليفته أبو بكر الصديق..
وذهب بلال
إلى خليفة رسول الله يقول له:
" يا خليفة رسول الله..
إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لمؤمن الجهاد في سبيل الله"..
فقال له أبو بكر:
فما تشاء يا بلال..؟
قال: أردت
إن أرابط في سبيل الله حتى أموت..
قال أبو بكر ومن
يؤذن لنا؟
قال بلال وعيناه
تفيضان من الدمع,
إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
قال أبو بكر: بل
ابق وأذن لنا يا بلال..
قال بلال:
إن كنت
أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..
قال أبو بكر: بل
أعتقتك لله يا بلال..
ويختلف الرواة,
فيروي بعضهم أنه سافر
إلى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
ويروي بعضهم
الآخر, أنه قبل رجاء أبي بكر في
أن يبقى معه بالمدينة, فلما قبض وولي عمر الخلافة
استأذنه وخرج
إلى الشام.
على أية حال, فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور
الإسلام ,
مصمما إن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب, ذلك أنه لم ينطق في
أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به
الذميات فيختفي صوته تحت وقع أساه,
وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
وكان آخر أذان
له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على
أن يؤذن لهم
صلاة واحدة.
ودعا أمير
المؤمنين بلال, وقد
حان وقت الصلاة ورجاه
أن يؤذن لها.
وصعد بلال وأذن..
فبكى الصحابة الذين
كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!
ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
وتحت ثرى دمشق
يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف
إلى جانب العقيدة
والاقتناع...